كانت تبدو أجمل, عندما تتحدث فيأشياء جادة. رحت أستدرجها لحوار ظننته سيكون كذلك:
إن كنت تكرهين الجسور , لماذا تشغل كل رواياتك؟ اشرحي لي هذا اللغز الذي لم أفهمه!
عادت إلى مراوغتهاالساخرة وردت:
ثمة مقولة جميلة لبروست :” أن تشرح تفاصيل رواية كأن تنسى السعرعلى هدية”. مثله لا أملك شروحاً لأي شيء كتبته.
علَّقت مازحاً:
طبعاً.. أفهم تماماً أن تكوني امرأة ملتزمة بـ ” إيتيكيت” الهدية!
ثم واصلت- وبالمناسبة, سؤالي كان بسبب لوحة زيان اشتريتها تمثل جسراً, وكنت أنوي أن أهديكإياها.
قاطعتني:
أرجوك لا تفعل. قد لا أعلقها أبداً في بيتي.
أجبتها وقدوجدتني أتحدث مثل فرانسواز:
كنت سأهديك إياها لتعلِّقيها على قلبك.. لا علىجدران بيتك.
قالت:
ما عاد في حوائط قلبي مكان لأعلِّق عليه شيئاً.
كانتمحاولتي الأخيرة لاستدراجها للحديث عنه. انتابتني بعدها حالة كآبة.
أكنت حقاًأحبها؟ أم أحب وجعي في حضرتها؟ امرأة لا أريدها ولا أريد أن أشفى منها, كان في طفرةألمي بها شيء مطهر يرفعني إلى قامة الأنبياء.
قالت وقد لاحظت حزني:
لا تحزنهكذا.. يكفيني هذا الفستان هدية منك. احتفظ أنت باللوحة ما دامت تعجبك. اعذرني, أصبحت أتشاءم من الجسور.
أشعلت سيجارة وقلت وأنا أتأملها وهي تقطع شريحةاللحمة:
أما زلت تبحثين عن آباء لرواياتك؟
ردت ضاحكة:
ما زلت..
روايتك التالية سأكون أباها .. وأمها.. وجد أمها.. وستكتبينها ” بلا أمّك“!
كانلنا قاموس من الغزل الجزائري لا غنى لنا فيه عن المسبّات. ضحكت وهي تستعيد مفرداتشراستنا العشقية وقالت وهي تقّبلني:
نشتيك يلعن بوزينك.. ويلعن بو الروايةمتاعك..
كنت أفكر لحظتها أن بعد كل متعة كان الحب يحصي عدد الأطفال الذين لمأستولدها إياهم. ولكن بعد كل حرمان جسدي كان الأدب يفرك كفّيه مستبشراً بعمل روائي. ولا بد لهذه المرأة المقصَّرة في الكتابة على الانكتاب, أن تنجب بحرمانها اليوم منينصها الأجمل. قررت ألا يخرج قلمها سالماً من هذا البيت, بيته.
بعد العشاء عندماوضعت على الطاولة سلة الفواكه وصحن الفراولة التي كنت أحضرتها لعلمي بحبها لها, قلتمازحاً:
احذري الفراولة.. برغم كونها عزلاء فقد تشعل حرباً عالمية. قرأت أنإحدى الرسائل المشفرة التي كانت توجهها إذاعة المقاومة الفرنسية التي كان يشرفعليها ديغول في لندن أثناء الاحتلال الألماني, كانت تحمل مساء 5 حزيران 1944 هذهالرسالة المشفرة:” أرسين يحب المربى بالفراولة” وكان ذلك إعلاناً بإنزال الحلفاءجيوشهم على الشواطئ الفرنسية!
قالت متعجبة:
حقاً..؟
قلت مازحاً:
لاتخافي.. خطورتها ليست في قوتها.. إنما في حمرة غوايتها. وربما لهذا يصعب على الناظرإليها مقاومتها. على غير بقية الفواكه هي غير مكترثة بأن تحمي نفسها بقشرة, أوتلتحف بغلاف. إنها فاكهة سافرة ولذا هي سريعة العطب.
كانت عيناها تتبعان يدي وهيتمرغ حبة الفراولة في صحن السكر.
قلت وأنا ألقمها إياها بذلك البطءالمتعمد:
لا أدري من ألصق للتفاح شبهة الخطيئة. الخطيئة لا تقضم, بل تلقم, والمتعة ليست سوى في كمية المواربة بين الفعلين.
في الحبة الثانية, كنت توقفت عنالكلام, كي أعلمها فضائل الصمت في حضرة الفراولة.
تركت لثغرها أمر مواصلةالتفكير في متعة لا يمكن لها أن تدوم, حتى لا نجد أنفسنا يوماً مثل زوربا نتقيأهالنشفى منها. فالإفراط في الملذات.. تراجيديا إغريقية.
تراها أدركت أنني كنتأعدها لمتعة مع وقف التنفيذ, وأنني ألقمها فاكهة الفراق!

لم أتوقع أن يجرؤالحب على التخلي عنا هنا حيث قادنا, ولكن, أكان يمكن أن يحدث شيئاً بيننا في ذلكالبيت المزدحم بأشباح عشاق, لم يكن لهم الوقت الكافي لتغيير شراشفهم وجمعأشيائهم.
ما كانت هي ولا كنت أنا. تحدثنا لغة ليست لغتنا. قلنا كلاماً غبياًلفرط تذاكينا. كنا نتكلم ثم نصمت فجأة, كي لا نقول أكثر من نصف الحقيقة, محتفظينلألمنا بنصفها الآخر.
طوال السهرة , كنا نعاند تعب الأسئلة, نغالب نعاس الأجوبة. أما كان يحق لصبرنا من سرير تتمدد عليه رغباتنا المؤجلة؟
امرأة كانت رائحتها, قميص نومها ضمن لوازم نومك. وأنت الآن تستطيع النوم معها, ولا أنت تدري ماذا ستفعلبعدها.
وكنت في تاريخ بعيد لحبكما, تستبقيها لحظة الفراق قائلاً ” لا تغادري.. كل أعضائي تشعر باليتم عندما تغيبي” وها أنت يتيم في حضرتها. يبكيها كل شيء فيك ولاترى.
وكنت تقول لها, وأنت تغدق عليها بتلك اللذة الشاهقة ” سأفسدك إمتاعاً حتىلا تصلحي لرجل غيري” وكنت تظن عندما افترقتما أنك ما عدت تصلح لامرأة بعدها. وهاأنت تكتشف أنك لم تعد تصلح حتى لها. فهل استدرجتها إلى هنا لاستخراج شهادة الموتالسريري لحب كان حياً بغيابكما؟

تمددت جواري في ذاك السرير, أنثى منزوعةالفتيل. ضممتها إلى صدري طفلة وديعة, تلوذ بي, كذلك الزمن الذي كانت تسألني فيهفزعة ” هل ستعيش معي؟” , فأطمئنها ورأسي يتململ بحثاً عن المكان الأدفأ في صدرهاسأعشش فيك”, فتلح بذعر العشاق ” حقاً لن نفترق؟” فأجيب بسذاجتهم ” حتماً لنننشطر“.
انتابني خوف مفاجئ بفقدانها, وأنا أكرر صمتاً الحركة ذاتها بحثاً عنمكان لرأسي في صدرها. ويصطدم وجهي بموسلين ثوبها الأسود الذي لم تخلعه. شعرت أنالموت سيسرق أحدنا من الآخر وأننا قد لا نلتقي أبداً.
عاودني ما قاله ناصر. ماذالو دبَّر لها زوجها ميتة ” نظيفة”, أو ماذا لو اغتالها الإرهابيون مثلاً.
لم يكنهاجسي احتمال موتي أنا, إنما قصاص العيش بعدها.

كانت فكرة موتها الحقيقية, امتحاناً فاضحاً لعشقي إياها. فأنت لا يمكن أن تدرك مدى حبك لشخص, إن لم تتمثل محنةالغياب, وتتأمل ردود فعلك, وأحاسيسك الأولى أمام جثمانه.
يوم رحت أختبر وقعموتها الحقيقي عليّ, كدت أموت حقاً. تسارعت نبضات قلبي, وفاجأتني حالة اختناق وضيقفي التنفس ظننتها ستودي بي. طلبت رقمها, ثم قطعت الخط لأتأكد من أنها على قيدالحياة. كنا في قطيعة طويلة, غير أني عندما استعدت أنفاسي حقدت عليها. كان يمكنللموت أن يختلسني في غفلة منها وتواصل بعدي تبذير كلمات ضنّت بها عليّ في حياتي.. لتشيّد بها صرح ضريحي في رواية.
كنّا متمددين بثيابنا في غرفة فرانسواز, تحيطبنا صورها المرسومة على اللوحات.
سألتني بنبرة ما قبل البكاء وهي تلتصق بي:
أما عدت تحبني.. أم أنت تفكر بها؟
لم أجب.
في مثل هذه الحالات لا تصل الكلماتحية, وحدها التي لا نقولها تنجو من الرصاص الطائش للبوح.
ضممتها إلى صدري. وقلتوأنا أقبلها:
نامي حبيبتي.. تصبحين على كتاب!

***


استيقظنا صباحاً على فاجعة الضوء.
كما في تحميضالصورة: الضوء أول فاجعة.
قالت مذعورة:
كم الساعة؟
قلت وأناأمازحها:
لا أدري.. بأمر منك قررت ألا أنظر إلى الساعة!
نظرت إلى ساعة قربطاولة النوم وصاحت:
يا إلهي ! إنها الثامنة والربع.
نهضت من السرير نحوالحمام تصلح من هيئتها.
هكذا فجأة نفذ الوقت.
يوم ماكر يتربص بسعادة تتثاءبلم تغسل وجهها بعد. سرير غير مرتب لليلة حب لم تكن. عبور خاطف لرائحتها على مخدعامرأة أخرى.
قالت وهي تعيد ذلك الفستان الأسود إلى كيسه بعد أن ارتدتثيابها:
أبإمكانك أن تطلب لي تاكسي؟
ابقي لتناول قهوة الصباح معي.. ثمامضي.
لا أستطيع.. أفضّل أن أعود الآن هذا أأمن.
أحزنني ذلك كثيراً. فكمانتظرت صباحاً أبدأه معها.
قلت وأنا أرافقها لانتظار التاكسي:
ما جدوى كلاختراعات الإنسان إن لم يخترع آلة لإيقاف الزمن بعد.. كم تمنيت أن نتناول فطورالصباح يوماً معاً.
علَّقت بنبرة تشي بمرارة خيبتها:
وما جدوى أن يخترعالإنسان آلة لإيقاف الزمن, إن كان سينفق ما كسب من وقت لمجرد تناول الفطوروالعشاء!
أحببت ذكاء تلميحها, تلقيته بابتسامة صامتة. كانت على حق.

كنتلحظتها أضع يدي في جيب سترتي لشدة البرد الصباحي, حين عثرت على حبات الشوكولاطةالتي أعطاني إياها زيان عندما زرته في المستشفى.
راودتني فكرة ماكرة أسعدتني. كنت ما أزال أفكر في الطريقة المثلى لتنفيذها, عندما لمحت سيارة الأجرة في آخرالشارع تتجه نحونا, فلم يبق أمامي إلا أن أقبِّلها مودّعاً, وأمد لهابحبتين منهاقائلاً:
إنها شوكولاطة أهداني إياها صديق زرته في المستشفى, تناوليها حتى لاتبقي على خواء.
ظلت لبرهة تتأمل قطعتي الشوكولاطة. حتماً تعرَّفت عليها منماركتها المميزة, لكنها لم تقل شيئاً.
ركبت التاكسي وهي تحت وقع المفاجأة, بدونأن تفهم ما الذي أوصلني حتى غرفة زيان في المستشفى, وما الذي أوصل إلى جيبي تلكالشوكولاطة التي أحضرتها له.
شعرت, وأنا عائد إلى البيت, بفرحة من فاز في اللحظةالأخيرة في جولة شطرنج شاقة. لكن فرحتي لم تخل من مرارة موجعة ترافق وعينا بموت شيءجميل فينا.

***

 

لا تحزن. هي ما جاءت لتبقى, بل لتشعرك بفداحة رحيلها.
ماذا تستطيع أنتفعل ضد امرأة , تذهب إلى الحب بعدّة ساحر, تبتكر من أجلك فنوناً خداعية, تمارسأمامك قلب الأشياء, إخفاء بعضها, استحضار أخرى, وتحويل كل ما هو حولك إلى وهم كبير. تضعك في صندوق زجاجي, وتشطرك في استعراض سحري إلى اثنين, واحد هو أنت, والآخر نسخةمن رجل آخر. ثم تعيد إلصاق جزءيك في كتاب.
ساحرة, لا تدري أخرجت من بين يديهاثريَّا أم فقيراً؟ سعيداً أم تعيساً؟ أتراك أنت أم غيرك؟ أخرجت من قبعة خدعتهاحمامة بيضاء.. أرنباً مذعوراً.. أم مناديل ملوَّنة للدموع؟
خطر لي وأنا أضعساعتي من جديد, أن الحب ساحر يبدأ استعراضه بخديعة تجريد ضحاياه من ساعاتهمالمعصمية.
هل فقط عندما تتلاشى أباطيل السحر, وخدع الحواة, يمكننا النظر إلىالساعة؟

إنها التاسعة والنصف صباح أحد.
قهوة مرّة سوداء أتناولها وحدي فيمأتم الحب لمواجهة بياض الوقت, الذي لا أدري كيف أنفقه في يوم ممطر كهذا.
وضعتشيئاً من الموسيقى, ثم رحت أخفي آثار ما لم يحدث في بيت غادرت زائرته, صافقة بابالحلم خلفها.
بدأت بتفقد غرفة النوم. دوماً كنت أكره الأسرّة التي لا رائحة لها, والنساء المهووسات بنشل غسيلهن على حبل التشاوف. لكن هذه المرة كان علي أن أحتاط منوشاية الأنوثة. ففرانسواز ستعود غداً . لكأنها غابت فقط كي تترك لي ما يكفي منالوقت لنصب سرداق عزائي.

عندما نراجع حياتنا نجد أن أجمل ما حدث لنا كانمصادفة, وأن الخيبات الكبرى تأتي دوماً على سجاد فاخر فرشناه لاستقبالالسعادة.
قررت عن أسىً ألا أخطط لشيء بعد الآن, عدا الاستعداد لمغادرة هذا البيتقبل خروج زيان يوم الأربعاء من المستشفى. فعليَّ أيضاً ألا أترك ما يشي بمروري. وقبل أن أنسى, ذهبت لإخفاء أشرطة الأغاني القسنطينية, خشية أن أتركها في جهازالتسجيل, فيستنتج أنني أقمت هنا.
أثناء تفكيري في كل التفاصيل, تذكرت أنني لمأزره منذ يومين, وأنه قال لي وهو يمدني بقطع الشوكولاطة تلك, إنه كان يفضل لو جاؤوهمكانها بشيء من “الزلابية” أو ” قلب اللوز” , مازحته:
رمضان ما زالبعيداً.
لكن المريض يشبه الصائم. إنه يقضي وقته في اشتهاء المأكولات, خاصة تلكالمرتبطة بذاكرة طفولية أو عاطفة.

وجدت في فكرة الذهاب إلى أحد الأحياءالمغاربية التي لا تعترف بالعطل الفرنسية لأشتري له شيئاً من الحلويات الجزائرية, قبل أن أعوده في المستشفى, أفضل ما يمكن أن أفعل في يوم أحد, خاصة أن شعوري بالذنبكان يتزايد تجاهه.
ألهذا رحت أجول في السوق العربيّ, بحثاً عن كل ما يمكن أنيحمل من الجزائر في كيس؟
اشتريت علبة صغيرة من التمر, ورغيفاً من الكسرة له, وآخر لي, بعد أن قال لي البائع إن سيدة تعد هذه الأرغفة كل يوم وإنها تنفذبسرعة.
عجبت لذلك العالم الذي كنت أجهله عن جزائر أخرى نقلت بكامل منتوجاتهاوعاداتها إلى حي احتلته الوجوه السمر. وتذكرت قولاً ساخراً لمراد ” عدا أمك وأبيك.. تجد في هذا البلد كل شيء“.
توقفت بعد ذلك في مطعم شعبي يدّعي تقديم ” كسكيملكي”. أقنعت نفسي لجوعي أنه كذلك. كنت في الواقع أريد أيضاً هدر بعض الوقت حتىتحين ساعة الزيارات.

وصلت إلى المستشفى عند الساعة الثانية, كان في المستشفىحركة غير عادية, بسبب الزيارات التي تتزايد أيام العطل.
سعدت لمجيئي حتى لا يشعرزيان بوحشة أكبر هذا اليوم بالذات. سعدت أيضاً لـ” حمولتي الوطنية”, كانت هذه أولمرة أحضر له أكلاً بدل الصحافة التي لا تزيده إلا همَّا.
طرقت الباب بفرحةالمباغتة, ثم فتحته كعادتي متقدماً خطوة نحو الأمام, لكنني فوجئت بعجوز مشدودة إلىأنبوب الدواء تشغل مكانه في ذاك السرير. هزيلة, شاحبة اللون, لها نظرات فارغة, حلَّمكانها حين رأتني تعبير يستجد بي, مطالبة بشيء ما لم تفصح عنه ولا أناأدركته.
بقيت برهة مذهولاً أنظر إليها, قبل أن أعتذر وأغادر الغرفةمسرعاً.

قصدت مكتب الممرضات في الطابق, أسأل عن مريض الغرفة رقم 11. كنتأثناء ذلك أهدّئ من روعي, فقد يكونون قد اصطحبوه لإجراء فحوصات أو للتصوير الشعاعي, أو ربما غيروا غرفته ليس أكثر, ذلك أنني تذكرت أنه قال لي مرة منذ أكثر من أسبوعينقد لا تجدني في هذه الغرفة, قد أنقل إلى جناح آخر”, قبل أن يعلّق مازحاً ” أناهنا عابر سرير“.
توقعت أن تدلني الممرضة على الرقم الجديد لغرفته, لكنها سألتنيإن كنت من أقاربه. أجبت ” نعم”. قالت:
لقد اتصلنا بالرقم الهاتفي الذي فيحوزتنا لنخبركم بتدهور مفاجئ لصحته ليلة البارحة, وتركنا رسالة صوتية نطلب حضورأقاربه, ولم يتصل بنا أحد وعاودنا الاتصال على الرقم نفسه هذا الصباح دونجدوى.
بين الذعر والعجلة سألتها:
متى كان هذا؟
عند العاشرة والنصفصباحاً.
كان ذلك الوقت الذي خرجت فيه لأشتري حاجيات للأكل قبل أن تغلق المحلاتالغذائية ظهر الأحد.
عادت إلى دفتر كبير كان أمامها:
الاتصال الأول كانالبارحة عند التاسعة والربع مساءً.
استعجلتها:
وهل بإمكاني أن أراهالآن؟
ردت بنبرة من تدرب أعواماً على مواساة الغرباء:

-Je suis desolee monsieur..Il est decede.

بدا لي كأنها لفظتالخبر بالعربية. قام القلب بترجمته الفورية إلى لغة الفاجعة, واختصر كل الجملة وماتلاها بعد ذلك من واجب المواساة في كلمة واحدة, نزلت علي كصاعقة من ثلاثةأحرف.
لم أفهم كيف أن ثلاثة أحرف مجتمعة في ذلم السياق تصبح برغم انسيابهاالموسيقي مؤلمة إلى ذلك الحد. حتى لكأن التاء المفتوحة في آخرها ليست سوىتابوت.
كان احتمال موته قائماً, لكنني لم أتوقعه أن يأتي سريعاً, ولا بهذاالتوقيت. هذه المصادفات مجتمعة باتت أكثر تعسفية من أن تكون مصادفات. لها إصرارالقدر في عبثيته.
قالت بتأثر:
أمر مؤلم أن يموت قبل مغادرته المستشفىبيومين. كان يبدو سعيداً بخروجه. أنا نفسي فؤجئت عندما قيل لي هذا الصباح إنه قضىليلة أمس في قسم العناية الفائقة.
سألتني بعد ذلك وهي تراني أقف لحظات مذهولاًأمامها بدون أن أقول شيئاً, إن كنت أريد أن أراه. أجبتها “لا”. أمدتني بورقةلأوقعها إن كنت أنوي استلام أشيائه. لمحت في الخزانة التي فتحتها, علبة الشوكولاطةالفاخرة فوق كومة ثيابه. أجبتها إنني أفضل أن أترك ذلك فيما بعد.

تركتهاوغادرت المستشفى مذهولاً, مشلول الأحاسيس, كأن دموعي تجمدت في براد يحوي الآن ماكان “هو“.
أخذت الميترو محملاً بالكيس ذاك. بكل ما أحضرته له,وما عاد في حاجةإليه. حاولت أن أتخلص منه بعد ذلك, بالتصدق به, في إحدى المحطات على أحد مشرديالميترو, فارتاب في أمره, ولم يبد حماسة في أخذه مني. كان يفضل مكانه, قطعة نقديةمن عشرة فرنكات, يشتري بها نبيذاً, فوجدتني أعطيه الكيس وعشرة فونكات لأقنعه بحسننواياي.

هو سيد التهكم والصمت الملتبس, ما ترك لي فرصة لكذبة أخيرة, كنتأعددتها لأبرر انشغالي عنه.
ربما كان يحتاج إلى تلك الكلمات التي احتفظت بهاخوفاً عليه. كان يحتاج إلى الحقيقة, فأعفاني بموته من مزيد من الكذب.
قررالعبور إلى سريره الأخير بينما كنت أنا أشغل سريره الأول.
أهداني بيته, نساءه, وأشياءه, وما ترك لي فرصة لأهديه ولو بعض قطع من الزلابية, وأحقق أمنيته الأخيرةالبسيطة, بساطة من شبع غربة..وما بقي له سوى جوع الوطن.
أستعيده متهكماً, تهكمذلك الغياب الشارد الذي يسبق اكتمال الغياب. كم من الأشياء كنت سأقولها له اليوم, لو لم أكن منهك القول, مذ أصبح بيننا كل هذا البياض. منذ متى وهو ذاهب صوب الصمتالأبيض؟
عندما وصلت إلى البيت, شعرت وأنا أدخله بهول الفاجعة. بصدمة الواقع الذييدفعك تحت عجلات قطار ركبته بنية الحلم.
ارتميت على أريكة الصالون منهكاً كحصانسباق.
كان عليَّ بدءاً أن أتوقف عن الركض قليلاً. أن أجلس لأفهم ما الذي أوصلنيإلى هذا البيت, أنا الذي كنت ألهو بممازحة الأدب, أكنت أمازح القدر دونعلمي؟
أدخلني الموقف لغرابته في حالة ذهول من أمري. رحت أتأمل مشهداً كأنني لستبطله.. كأنني شاهدته في زمن ما.
يوم قرأت سيرة ذلك الرسام, وجدتني أتماهى معه فيأمكنة كثيرة من تلك القصة. تمنيت أن أكرر حياته بما تستحق الإعادة من ذكاء. ولكن منيتذاكى مع “المكتوب”؟ المكتوب الذي بدأ بالنسبة لي بذلك الكتاب الذي لا يمكن أنتخرج من قراءته سالماً.
أمنه جاءت اللعنة؟ أم من “حياة”؟ تلك المرأة التي كانتتحمل اسماً يعني عكسه كعادة العرب في تسمية ما يرون فيه شراً بنقيضه؟
أم ترىاللعنة تكمن في الجسور التي ما زال إحداها معلّقاً قبالة هذه الأريكة؟
هناأمامها عاش زيان حقيقة موت زياد الذي لم يكن يفصله عن التطابق به سوى حرف.
وفيحضرة هذه الجسور أجهش راقصاً على إيقاع زوربا بذراعه الوحيدة يوم أخبروه باغتيالأخيه الوحيد.
أمصادفة إذا كانت الجسور مبنية من الإسمنت, المادة التي تضمر فيقتامتها غضباً مكتوماً وشراً صامتاً, كمن يدبر لك مكيدة؟ طالما شككت بنوايا الجسور, مذ اكتشفت في كل هارب شبهة جسر, لا أحد يدري لأي الطرفين ينتمي.
لكن زيان لم يكنهارباً. كان مهرباً لما ظنه وطناً.

يالغباء الرجل, بين ما يعتقده جسراً, ومايعتقد الجسر أنه وطن ثمة جثتك. فالجسر لا يقاس بمدى المسافة التي تفصل طرفيه, بلبعمق المسافة التي تفصلك عن هاويته.
عندما تولد فوق صخرة, محكوم عليك أن تكونسيزيف, ذلك أنك منذور للخسارات الشاهقة, لفرط ارتفاع أحلامك.
نحن من تسلَّق جبالالوهم, وحمل أحلامه.. شعاراته.. مشاريعه.. كتاباته.. لوحاته, وصعد بها لاهثاً حتىالقمة. كيف تدحرجنا بحمولتنا جيلاً بعد آخر نحو منحدرات الهزائم؟
من يرفع كلالذي وقع منا في السفح؟

عندما دخلت فرنسا بعد سبع سنوات من الوقوف ذليلةٍأمام تلك القلعة المحصنة كعش نسر في الأعالي, راح خيالة قسنطينة وفرسانها الذين لميعتادوا على مذلة الأسر. يقفزون بخيولهم من على الجسور عائدين إلى رحم الوديان. كانآنذاك الموت قفزاً نحو منحدراتها الشديدة, آخر نصر لرجال لا مفخرة لهم سوى أنهمأبناء الصخرة.
بهم انتهى زمن الموت الجميل, وأصبح وادي الرمال مجرى لنفاياتالتاريخ, تطفو فيه مع قمامة المدينة وأخبار لصوصها المحترمين, جثث أبنائها الجميلينوالبائسين.
لا شيء يستطيع أن يمنعك من تسلق ” جسور الموت” حتى ذلك الحزام الأمنيالذي, بعد أن كثرت حالات الانتحار, أحاطوا به خصر الجسور لتصبح أعلى. قد يمنعك أنتطل على الموت, ولكن لا يمنع الموت أن يطل عليك, حيث أنت في حضيضخيباتك.

فجأة, مثل حياة, بدأت أتطير من هذه اللوحات. ووجدت في جلوسي أمامها, استفزازاً صامتاً لقدر لا قوة لي على مواجهته.
سعدت أنني سأغادر هذا البيتقريباً, وأنها ستبقى هنا. ثم تذكَّرت اللوحة التي اشتريتها وما زالت معروضة حتىانتهاء المعرض. فكرت أن أكلِّف فرانسواز بإحضارها. ثم فكرت في غرابة سفري مع جثمانزيان برفقة تلك اللوحة.
أوصلني التفكير إلى حقيبتي التي لا بد أن أعدها, وأشياءزيان التي علي أن أقوم بفرزها بسرعة, لأنني لا أدري متى سيكون سفري إلى قسنطينة حسبتاريخ الرحلات.
ووجدتني أستعيد ما كنت عشته منذ سنتين بعد اغتيال عبد الحق, عندما كان عليَّ أن أجمع أشيائي في بيته الذي كنت أقيم فيه بين الحين والآخر في تلكالفترة التي كان فيها الصحافيون يغيرون عناوينهم يومياً, والتي كان عبد الحق بدورهلا يعرف عنواناً ثابتاً مذ استشعر خطر اغتياله.

ربما كان الأمر أهون يومها, لأنني لم أكن معنياً سوى بجمع أشيائي, بينما تركت لزوجته عذاب التكفل بأشيائه. غيرأن وجعي كان بسبب كل ما كانت حياة قد أحضرته.حتى إنّ زيارة بعد أخرى, أصبح البيتينقسم إلى أشياء عبد الحق البسيطة, وتلك الأشياء الأخرى الفاخرة, التي كانت تهربهامن بيتها, وتأتي بها, مشفقة على بؤس شقة, لا علاقة لها بفخامة مسكنها, غير مدركةأنها تؤثث شقة صديقي!
في البدء كنت سأشرح لها الحقيقة, ولكن كنت أحببت سوء الفهمالعشقي الذي تورطنا فيه, وإغراء تلك العلاقة الملتبسة التي تجمعنا.
وكان بإمكانعبد الحق, كلما مر, أن يعرف وتيرة زياراتها من مستجدات البيت, من مناشف جميلة, وشراشف أنيقة, ومنافض من الكريستال, ولوازم مطبخ, وروب للحمام.
بدأت أتعود أنأراها تأتي من بيتها محملة دائماً بكل ما تقع عليه يداها, حتى الأجبان المستوردة.. وألواح الشوكولاطة.. وعلب السجائر. بل حدث لفرط إجرامها العاطفي المغلف بالعطاء, أنأهدتني ثياباً ومصاغاً اشترته نيابة عني لزوجتي!
كانت امرأة سخية في كل شيء. فيخوفها عليك, في انشغالها بك, في اشتهائك, في إمتاعك.. وحتى في إيلامك.
ذلكالسخاء العشقي الذي تشعر عندما تفقده بفاجعة اليتم الأول, لأنك تعي أن لا امرأةبعدها ستحبك بذلك الحجم ولا بتلك الطريقة. ذلك أنك أثناء انبهارك بها, كانت تلكالمرأة تعيث فيك عشقاً وفسقاً وكرماً, وتفسدك وتخرِّبك وتدلَّلك وتشكّلك, بحيث لنتعود تصلح لامرأة عداها.

عندما مات عبد الحق, أصبح السؤال ماذا أفعل بتلكالأشياء. أأتركها في البيت لتتصرف بها زوجة عبد الحق كيفما اتفق, أو آخذها إلى بيتيلأقاصص بها نفسي؟
فأصعب من اختراع قصة مقنعة لزوجتي عن مصدرها, معايشتي اليوميةلتلك الأشياء التي ارتبط كل شيء منها بذكرى تحرّض الشجون عليك, وتعيدك إلى ذلكالجحيم غير المدرك لسعادة كانت تحمل في فرحتها بذور تعاستك الآتية.
كمثل صدقةجارية, كان عشق تلك المرأة قصاصاً جارياً. ما عرفت امرأة بعدها إلا وكان فيهاقصاصك. وما استعملت شيئاً أهدتك إياه إلا وعذبت نفسك به, وما ضممت إلى صدرك غيرها.. إلا وهجم عليك الصقيع.
كيف تنجو من وجع المقارنة؟ هي التي أغدقت عليك بما لنتعطيك امرأة بعدها. أكانت تضمر لك في كل ما أعطته ألماً, ذلك أن العشق وحده في كلما يعطيك يضمر قصاصه المستقبليّ.
ما الأرحم إذن, ما يتركه لك الموتى حين يرحلون؟أم ما يتركه الحب بعد رحيل الأحياء؟
أطفأت في منفضة الألم أسئلتي, وذهبت صوبغرفة زيان أفتح ورشة الموت.

***


هي ذي الحياة بأشياء موتها التي لا تموت. هس ذي تلكالأشياء التي تظنك تنالها فتنال منك, لأنها ستعيش بعدك.
في كل موت أنت أمامالموقف نفسه. كما كنت أمام أشياء أبيك , وغرفة نومه التي أورثك إياها, بخزانة تضمبدلات وثياب وأشياء رجل من عمره,منامته, روب البيت السميك, والآخر الحريري, ثيابهالداخلية ذات الماركة الفرنسية نفسها دائماً, مفكرته, خف البيت الصوفي, نظاراته, ساعته, كنزاته, أدويته المكدسة لأشهر مقبلة, ظناً منه أنه بشرائه كميات أكثر يشتريله عمراً أطول.

في غرفة نوم أبيك, ثم في بيت عبد الحق, والآن أمام أشياءزيان, تفهم أنك تساوي أرخص من أي شيء تملكه.
وإلا .. كيف لمنفضة ثمنها 10 فرنكاتأن تعيش بعدك؟ كيف لساعة ثمنها 500 فرنك أن تواصل عقاربها الدوران غير آبهة بتوقفقلبك؟ كيف لسرير؟ كيف لكرسي؟ كيف لحذاء؟ كيف لجورب ما زال عليك عرق قدميك ألا يكترثلموتك؟
وكيف أن الأشياء التي كلفتك الأكثر هي أول من يخونك, وأن تلك التي كدتتفقد بسببها حياتك, ما تكاد تفرق الحياة حتى تذهب لغيرك؟
السؤال نفسه يعود: كيفأواجه الحضور الظالم, الحضور الرهيب البارد, لتلك الأشياء غير المعنية بموتٍ مابردت جثته بعد؟
طبعاً ” لا أكثر خبثاً من البراءة” وأنا تعلَّمت ألا أنخدعببراءة حضورها الألفويّ الصامت. ألا أصدق حزنها الشامت الذي يقول لك, إنّ أصحابهالم يعودوا هنا, وإنها على يتمها ستعيش بعدهم. وقد تذهب إلى أعدائهم, كما يذهب حذاءجندي ميت إلى عدوّه البائس في ساحة قتال يكسوها الثلج.

تريد أن تختبرالأشياء بموتك. اغلق الباب خلفك, وامضِ.
أول سارق ماكر هو ذلك الغبار الذي سيضعيده بقفازه الترابي على أشيائك, بدون أن يحركها من مكانها. دون أن يلفت انتباه أحد, ستصبح له بحكم الغياب.
الغبار الذي يتقدم مكتسحاً كل مكان تغيبت عنه, ليس سوىتمرين لما سيقع بعد موتك.
بعدها ستمضي تلك الأشياء, لأولئك الذين سيسطون عليها, لا بحياء الغبار, إنما بوقاحة اللصوص, كما في قصة زوربا, عندما كانت تلك العجوزأثناء احتضارها, ترى بعينيها الناس الذين جاؤوا بذريعة مواساتها, يتسابقون إلى سرقةأشيائها, مستفيدين من عجزها عن الدفاع بعد الآن عما حافظت عليه حتى آخرالعمر.
المؤلم إغلاقها عينيها على مشهد الفقدان. غير دارية أين عليها أن تنفقجهدها الهزيل لحظة الاحتضار. أبالتشبث بآخر أنفاسها؟ أم بالإمساك بآخرجاجاتها!

في الموت, الدور الأكثر تعاسة, ليس من نصيب الذي رحل وما عادمعنيَّا بشيء, إنما من نصيب الذي سيرى قدر الأشياء بعده.
على حزنها, لا أظنفرانسواز ستتحمل طويلاً جثث الأشياء في بيتها. والأمر حسب معرفتي بها لن يأخذ منهاأكثر من ساعتين أو ثلاث, وهو ما يلزمها من وقت لجمع أوراق زيان وكتبه, في انتظار أنتسلِّمها لأول عربي يدخل بيتها.
أما ما بقي فقد تضعه في أكياس, ليأخذ مكانه فيالطابق السفلي جوار صندوق القمامة, أو في أحسن الحالات, قد تحتفظ به في المرآب, فيانتظار المرور التالي للصليب الأحمر لجمع المساعدات الإنسانية.
ذلك أن فرانسوازمهووسة بالمبادرات الخيرية, وكأنها نذرت نفسها لمساعدة بؤساء البشرية, يتناوبون علىقلبها وعلى سريرها حسب مستجدات المآسي في العالم. حتى كان يبدو لي أن معاشرتها زيانتدخل ضمن نشاطاتها الخيرية.
وكنت أراها, حسب نشرات الأخبار, تسارع لتلبية نداءالإغاثة لهذه الجهة أو تلك, جامعة ما زاد عن حاجتها من ثياب, وما بلي أو لم يبلَ منأحذية وستائر وشراشف, في أكياس كبيرة من البلاستيك تقوم بإنزالها ووضعها جوارمقصورة البواب, في انتظار أن يجمعها الصليب الأحمر.

كان في فرانسواز شيء منالطيبة الممزوجة بسذاجة الغربيين في التعامل مع الآخر, والذي يتحكم فيها منطقإعلامي يبسط الأشياء, ويقسِّم العالم إلى خيِّر وشرير, وحضاري ومتخلف, ولازم وغيرضروري.
يوم رأيتها تنزل بتلك الأكياس لتتصدق بها لضحايا ” سراييفو”, اعترفت لهاأنني أحسدها على شجاعتها في التخلص من كل شيء بسرعة وقدرتها على رمي الأشياء في كيسللصدقة, بدون ندم أو تردد أو حنين, غير معنية بذاكرة الأشياء ولا بقيمتها العاطفية, وتمنيت لو استطعت مثلها أن أجمع ذاكرتي في صرة, وأضعها عندالباب كي أتخلص منحمولتي.. وأضاهيها خفة.

 

سألتني:
وماذا تفعلون إذن بالأشياء التي لم تعد من حاجة لكم بها؟
أجبتمازحاً:
ليس في حوزتنا أشياء لا نحتاجها, لأنها حتى عندما تهترئ, وتعتق, نحتاجحضورها المهمل في خزائننا أو في مرآب خردتنا, لا عن بخل, بل لأننا نحب أن نثقلأنفسنا بالذاكرة, ونفضل أن نتصدق بالمال, على أن نتصدق بجثث أشيائنا, ولهذا يلزمنادائماً بيوت كبيرة. ثم واصلت ضاحكاً: أليس في الأمر كارثة!؟

ها هي ذيالكارثة! فتفضل أيها العربي المثقل بحمولتك, تركة أخرى في انتظارك, فماذا ستفعلبهذه الغربة الفضفاضة لرجل ضاق به الوطن, وترك لك ما خاله وطناً: كتباً في الشعروأخرى عن تاريخ الجزائر, صور أخذها مع أناس قد يكونون أهلاً أو أصدقاء, ربما ماتواأو ما زالوا أحياء, نسخة قديمة لمصحف, مفكرات لعدة سنوات عليها عناوين ومواعيدوأسماء, وصفات طبية, تذاكر سفر مستعملة, ملصقات صغيرة لها ذكرى وحده يعرفها كقارورةعطر ” شانيل” النسائية الفارغة, قابعة في ركن قي في خزانة الملابس, مغرورقة في حزنفقدانها العطري. إنه الوفاء الأنثوي يجهش اعتذاراً عن كل الخياناتالنسائية.

تجمع حولك أشياء بديلة تسميها وطناً. تحيط نفسك بغرباء تسميهمأهلاً. تنام في سرير عابرة تسميها حبيبة. تحمل في جيبك دفتر هاتف بأرقام كثيرةلأناس تسميهم أصدقاء. تبتكر أعياداً ومناسبات وعناوين وعادات, ومقهى ترتاده كماتزور قريباً.
أثناء تفصيلك لوطن بديل, تصبح الغربة فضفاضة عليك, حتى لتكادتخالها برنساً. غربة كوطن, وطن كأنه غربة. فالغربة يا رجل فاجعة يتم إدراكها علىمراحل, ولا يستكمل الوعي بها, إلا بانغلاق ذلك التابوت على أسئلتك التي بقيت مفتوحةعمراً بأكمله, ولن تكون هنا يومها لتعرف كم كنت غريباً قبل ذلك, ولا كم ستصبحمنفياً بعد الآن!

كنت ما أزال أفكر كيف أتصرف بكل تلك الأشياء, عندما لمحتحذاءً أسفل الخزانة.
كان حذاءه الوحيد, أو بالأحرى, ما بقي له هنا. فهو حتماًيملك حذاءً آخر ذهب به إلى المستشفى.
لا أدري لماذا اختار ذلك الحذاء دون هذالسفرته الأخيرة. قد يكون تركه لمناسبة أجمل, فهو حذاء جديد كأنه لم ينتعله. وبرغمذلك, بدا لي أكثر حزناً من الآخر, مختبئاً أسفل الخزانة كيتيم, يخاف أن يلفتالأنظار إليه فيطرد.. أو يُغتال.
أثمة يتم للأحذية أيضاً؟
بدا لي زوجا الحذاءمتلاصقين كرجلي ذلك الصغير المرعوب. عندما مددت يدي لأخرجهما من مخبئهما, استعدتمنظر ذلك الطفل الذي أخذت له صورة, والذي قضى ليلة مختبئاً تحت السرير, وعندمااستيقظ في الصباح, وجد أنه فقد كل أهله,وأنه أصبح يتيماً إلى الأبد.
أنا الذيقررت أمام ورشة الموت ألا أبكي, أمام ذلك الحذاء الذي كسا الغبار لمعته, وجدتنيأنهار باكياً.
هو رجل المسافة, وحشمة التغافل. أحزنني هتك أسراره, والتسكع فيعالم ما توقع أن يدخله غريب بعده, بذريعة أنه لم يعد هنا ليحمي أشياءه الصغيرةالسرية. تلك الأشياء التي لم تحفظ حرمة غيبته, بل راحت تغتابه, وتثرثر مع أول عابرسبيل.

وأذكر عندما زرته في إحدى المرات, وكان علي أن أغادر الغرفة وأنتظرهبعض الوقت في الخارج ريثما تنتهي الممرضة من خدمته, راح يعتذر لي عن انتظاري, ويحدثني عن مذلة المرض الذي يعطي لأيّ شخص الحق في أن يستبيح جسدك وينتهكحميميتك.
قال:
هذه أول مرة أدخل فيها المستشفى مذ بترت ذراعي منذ أكثر منأربعين سنة. لا أحب مهانة المرض. ما أنقذني أنني تعودت في الحياة أن أواجه النظراتالتي تعرّي عاهتي بأن أتغابى.. فلم أفعل غير مواصلة ذلك هنا.
ثم واصل:
التغابي هو بعض ما اكتسبته من اليتم. عندما تعيش يتيماً, تتكفل الحياة بتعليمكأشياء مختلفة عن غيرك من الصغار. تعلِّمك الدونيّة, لأن أول شيء تدركه هو أنك أقلشأناً من سواك, وأنه لا أحد يردّ عنك ضربات الآخرين, ومن بعدهم ضربات الحياة.أنت فيمهب القدر وحدك كصفصافة, وعليك أن تدافع عن نفسك بالتغابي, عندما يستقوي عليك أطفالآخرون, فتتظاهر بأنك لم تسمع.. وأنك تدري أن لهم آباء يدافعون عنهم ولا أبلك.
صمت بعض الوقت.. ثم واصل:
كلّ اكتسب شيئاً من دونيته, سواء أكان كريماًأو بخيلاً.. عنيفاً أو مسالماً.. واثقاً في الناس أو مرتاباً.. عازباً أو ربعائلة.
كلّ يتيم هو مريض بدونية سابقة, يتداوى منها حسب استعداداتهالنفسية.
لكن أعلى درجات اليتم.. يتم الأعضاء. إنها دونية عارية معروضة للفرجةوالفضول, لا شفاء منها, لأنك ما رأيت أحداً إلا وذهب نظرك مباشرة إلى ما يملكه.. وينقصك أنت.. وهنا كم يلزمك من التغابي لتكذب على نفسك!

أستعيد الآن كلامههذا.. متذكراً قولاً لمعاوية بن أبي سفيان ” إن ثلث الحكمة فطنة, وثلثيهاتغافل“.
ذلك أنه ما كان لي أن أدرك ثلثي حكمته إلا وأنا أجمع أشياء موته, وأقعفجأة بين حاجاته على نسخة من كتاب “فوضى الحواس” تبدو منهكة لفرط تداولها, نسخةبدون إهداء, من الأرجح أن يكون اشتراها. ذلك أن السعر مكتوب بقلم الرصاص على صفحتهاالأولى.. بالفرنك الفرنسي. وفي الأرقام الثلاثة تلك, كانت تختصر كل فجيعة رجلأحالته حبيبته من قلب كتاب كان سيده, إلى غريب لا مكان له حتى في إهداء الصفحةالأولى. يدفع 140 فرنكاً, كي يعرف ما أخبارها مطارداً خيانتها بين السطور.
كانيعرف إذن من أكون, وكان يواجهني بالتغابي ذاته!

نزلت عليَّ صاعقة الاكتشاف, وسمَّرتني مكاني. رحت من دهشتي أتصفح الكتاب وأعيد قراءة صفحات منه كيفما اتفقوكأنني أكتشفه لتوّي, باحثاً عما يمكن أن يكون قد تسقطه عني.
كيف له في محاولةلتقصِّي أخبارها, ألا يشتري كتاباً لها صدر بعد أن افترقا.
وهي التي كالأنظمةالعربية, تحترف توثيق جرائمها, واستنطاق ضحاياها في كتاب. كيف لها ألاَّ تجعلنيمفضوحاً بالنسبة إليه, بقدر ما كان هو في ” ذاكرة الجسد”, وإذ بواحدنا يعرف عنالآخر كل شيء, جاهلاً فقط علم الآخر بذلك.

كمن يحاول فكّ سرِّ كبير, بترتيبفسيفساء الأسرار الصغيرة, رحت أحاول أن أفهم, في أيّ موعد بالذات أدرك من أكون, وأيّ تفصيل بالذات جعله يتعرَّف عليّ. أمن الاسم الذي أعطته له فرانسواز, وهي تطلبلي موعداً معه؟
ترى لو لم أقدِّم نفسي على أنني خالد بن طوبال أكان سيتعرف عليَّمثلاً من عاهة ذراعي اليسرى التي لا تتحرك بسهولة؟ أم كان سيعرفني لأنني كما فيالرواية مصوِّر…ومن قسنطينة؟ ولأفترض أنني عندما زرته في المستشفى لم أقل لهشيئاً على الإطلاق, أكان سيتعرف عليَّ بحدس المحب, وريبة الرجولة؟
ثم, قد يكونتعرّف عليّ, وعرف من ذلك الكتاب كل شيء عن علاقتي بحياة, وهذا ليس مهماً فيالنهاية..
لكن, أكان على علم أنني أقيم في بيته؟ وأساكن صديقته؟ وأنني التقيتبحياة واصطحبتها إلى هذا البيت؟ وأنها كانت ترقص لي لحظة كان يحتضر؟
أيكون اختارتلك اللحظة بالذات لأن يموت فيها إمعاناً منه في التغابي؟

ما زلت غير مصدِّقأن يكون في توقيت موته مصادفة, ولا أرى سبباً لتدهور مباغت لصحته. فلا شيء عندماالتقيت به قبل ذلك بيوم, يشي بأن حياته في خطر أو أنه يعاني من انتكاسة ما.
بلإنني لم أره ممازحاً ومرحاً كذلك اليوم. وأعرف خبث ذلك المرض بالذات, الذي من بعضمكره, إعطاؤك قبل أن يفتك بك, إحساساً بالتعافي. والكل من حولك سيقولون لك ذلك, لأنك فعلاً ستبدو في أحسن حالاتك.
أعرف هذا من أبي. غير أني من عمي أعرف أيضاًأن الإنسان يختار توقيت موته. وإلا كيف استطاع أن يموت في أول نوفمبر بالذات, تاريخاندلاع الثورة الجزائرية التي كان أحد رجالها؟
وجدت تأكيداً لهذا المقال أبحاثاًقام بها متشنيكوف, وهو عالم وضع في بداية القرن العشرين نظرية في وظائف خلاياالجسم, تثبت أن الإنسان لا يموت إلا إذا أراد حقاً ذلك, وأن موته العضوي ليس سوىاستجابة لمطلب نفسي ملحّ.
وإذا صدقت هذه النظرية تكون الثورة الجزائرية أودتبحياة عميّ برصاصة تأخر مفعولها القاتل أربعين سنة, وأكون أنا من أقنع زيان يومهابإطلاق رصاصة الرحمة على نفسه واشتهاء الموت حد استحضاره.

هذه الفكرة لم تكنإلا لتزيد من حزني, ولذا ما كادت فرانسواز تعود إلى البيت حتى بادرتها سائلاً عمّاإذا كانت أخبرت زيان بإقامتي عندها أم لا.
أجابت متعجبة:
طبعاً لا..
ثمواصلت:
ما كان لي أن أنسى ذلك بعد إلحاحك عليَّ بعدمإخباره.
تمتمت:
شكراً!
وتنفست الصعداء. يا إلهي ما أصعب الإساءةللموتى.
واصلت فرانسواز, وهي تتعجب لأمري قائلة:
زيّان يعرف بأنّ ليعلاقات. وهو ما كان يتدخل في حياتي. هذا الأمر كان واضحاً بيننا منذ البدء.. فلماذاأنت قلق؟
كم كان سيطول الكلام, لو أنا شرحت لها أسباب قلقي. لكن في مثل هذهالحالات, كنت أكتشف كم هي غريبة عني وكم الكلام معها يأخذ بعداً عبثيّاً. هذا برغمتأثرها البالغ عندما وقع عليها الخبر حتى أنها انهارت على الأريكة باكية مرددة:

-ce n’est pas possible…Oh mon Dieu..

قبل أن تسألني وهيتستمع إلى الرسائل الهاتفية, كيف أنني لم أعرف بنداءات المستشفى.
أجبتها وقدفاجأني سؤالها, أنني كنت ذلك المساء خارج البيت. لكنها أجابت بما فاجأني أكثر, ” آهصحيح.. ربما كنت يومها تتعشَّى عند مراد“.
بقيت صامتاً للحظات, وأنا أستنتج منعبارتها أنها على اتصال دائم معه, وأنهما يتهاتفان كل يوم.
لم يكن الظرف مناسباًلأمعن التفكير في غدر صديق أثناء انشغالي بتفاصيل موت صديق آخر. كان جميلاً أنأتأكد من أن للموت تنوعه, فثمة موتى نواريهم التراب, وآخرون أحياء نطمرهم في وحلمخازيهم.
كنت رجلاً بإمكانه أن يتفهم خيانة زوجة. لكنه لا يغفر خيانة صديق. فخيانة الزوجة قد تكون نزوة عابرة, أما خيانة الصديق فهي غدرٌ مع سبقالإصرار.
وضعت تلك الجملة بيننا مسافة من جليد الجفاء. وقد تكون فرانسواز فسَّرتبرودتي تجاهها بعد ذلك بفاجعة موت زيّان, بدون أن تعرف حجم المقبرة التي أحملها فيقلبي.
اكتفيت ليلاً بضمِّها إلى صدري, وأنا أفكِّر في اقتراب ليلة سيحتلّ فيهامراد مكاني عابراً لهذا السرير.. المقيم.

***


لأنني لم أنم. غادرت البيت باكراً صباح اليومالتالي لأقضي بعض ما تأخر من مشاغلي, نظراً لمستجدات الظرف, واستعداداً لعودة وشيكةإلى الجزائر.
عندما عدت مساءً, أخبرت فرانسواز أنني زرت مكتب الخطوط الجزائرية, وأن ثمة رحلة إلى قسنطينة بعد ثلاثة أيام. سألتها إن كان بإمكاني الاعتماد عليها فيالإجراءات الإدارية وتكفّلي أنا بالأمور الأخرى. ثم واصلت بعد شيء من الصمت:
نقل الجثمان يكلف 32 ألف فرنك.
سألتني فرانسواز:
هل تملك هذاالمبلغ؟
وجدتني أبتسم.. وأجبتها:
لا.. اشتريت تلك اللوحة بما كانمعي!
قالت بتذمر:
يا للحماقة.. نصف ريع لوحاته ذهب إلى الجمعيات الخيريةوالنصف الآخر الذي يعود إليه لا نستطيع التصرف فيه. فبحكم موته, كلّ شيء بعد الآنمحجوز قانونياً ومجمَّد في انتظار حصر الورثة.
واصلت وهي تشعل سيجارة:
ليتكما اشتريت تلك اللوحة. إنها أغلى لوحة بيعت. أصرَّ زيّان على أن تباع لوحاته بأسعارمعقولة حتى تكون في متناول الجميع. ربما وضع سعراً غالياً لها لأنها الأحبإليه.
بل أنا من وضع سعراً لها. هو لم يطلب منّي شيئاً. أردت أن أضع فيها مابقي في حوزتي من مال تلك الجائزة.. وأرتاح.
قالت بعد شيء من الصمت:
ألا ترىمن العجيب أن يكون زيان أراد ائماً الاحتفاظ بهذه اللوحة , وأن ثمنها يساوي تقريباًتكاليف نقل جثمانه إلى قسنطينة؟.
اقشعرَّ جسدي: يا إلهي من أين جاءت بهذهالفكرة. انتابني شعور بالذعر, كأنني بشرائي تلك اللوحة سرقت منه قبره, أو كأننياشتريت بها قبري. ذهب تفكيري في كلّ صوب, واستعدت تطيّر حياة من الجسور.
وبدونأن أشرح لها هواجسي, وجدتني أسأل فرانسواز:
أتعتقدين أننا ستعثر في يومين علىمشترٍ لها؟
ردَّت بدون أن يبدو عليها أسف أو عجب لقراري:
قد يكون ذلكممكناً ما دامت معروضة. يكفي أن نرفع عنها الإشارة التي تدل أنها بيعت.. كل رواقيملك قائمة بأهم الزبائن الذين يعنيهم اقتناء لوحات هذا الفنان أو ذاك. وهو يتّصلبهم في مثل هذه الحالات.

كان بيعها كالاحتفاظ بها يحزنني. ولذا ما عدت أدريأيّ القرارين كان صائباً, خاصة أنني اشتريتها من مالي, لأنني أحببتها, ولأن لا أحدغيري يقدِّر قيمتها العاطفية.
وكان السؤال في حالة احتفظت بها: مِمَّن أستدينالمبلغ لنقل جثمان زيّان, أم ناصر وهو أكثر نزاهة من أن يفيض حسابه بهذا المبلغ, أمن مراد ولا رغبة لي بعد الآن في التعامل معه, ولا أظنه سيساعدني سوىبالقليل.
كان الحل الوحيد هو الاتصال بحياة. أظنها قادرة على تأمين هذاالمبلغ.وكنت سأسعد بذلك لولا أن لا مال لها سوى مال زوجها, وأن في الأمر إهانة لعمرقضاه زيان رافضاً التلوث بمال اللصوص ذوي الياقات البيض, أو الاستنجاد بدولة ليستمسؤولة سوى عن تأمين علم وطني يغطّى به جثمان مبدعيها ممّن اغتيلوا بالعشرات علىأيدي الإرهابيين. فكيف أفكّر في طلب مساعدة من السفارة؟
كان رجل التورّعوالترفّع, كم هيأوا له من أبواب واطئة يستدعي مروره منها انحناء كبريائه, والتنازلعن ذلك الاعتداد بالذات. ألأن قامته أصبحت الآن في انبطاح تابوت, بإمكانه أ يمرّ منباب أبى المرور منه حيَّا؟
لم يكن الأمر يتطلب الكثير من التفكير. وجدتنيمؤتمناّ على رفات هذا الرجل, فلن أتصرف إلا بما يليق بما أعرفه عنه. ولا أخالهسيسعد إن أنا تسولت ثمن نقل جثمانه من الآخرين, وقد تصدَّق حيَّا بما كان سيضمن لهموتاً كريماً.
هو رجل الحزن المتعالي, أليس أكرم له أن يسافر على نفقة إحدىلوحاته, على أن تنقل رفاته على حساب أحد المحسنين, أو كرماً وتصدّقاً من قراصنةالأوطان المنهوبة؟
قطعت فرانسواز تفكيري قائلة:
إن كنت تريد أن تعرض اللوحةللبيع, عليَّ أن أخبر فوراً كارول كسباً للوقت. فأحياناً لا تتم الأمرو بسرعة, خاصّة أننا في نهايات السنة,والناس في مواسم الأعياد لا يملكون مالاً لإنفاقه فيمثل هذه المشتريات عندما تكون غالية نسبياً.
أجبتها وأنا أشعل سيجارة وأذهب صوبالشرفة:
اطلبيها..

في الصباح التالي استيقظت متعباً من ليل كله كوابيس. قد أكون تكلمت أثناء نومي أو تقلبت كثيراً. ممّا اضطر فرانسواز للنوم على أريكةالصالون.
وضعت قبلة على خدها, واعتذرت لها محرجاً.
ردت بلطف:

Ce n’ est pas grave..

ثم سألتني, لماذا كنت مضطرباً إلى ذلكالحد.
أجبتها وأنا أتجه صوب المطبخ لأعد القهوة:
كان حلماً مزعجاً.
منالأرجح أن تكون قصة اللوحة وحواري مع فرانسواز وأشياء زيّان التي قضيت البارحة فيفرزها, تراكمت جميعها في لا شعوري, لتولد ذلك الحلم الذي كنت أرى فيه نفسي ما هممتباجتياز جسر من جسور قسنطينة إلا وصاح بي الناس على جانبيه ألا أفعل.
كان الناسيهرِّبون أشياءهم من بيوتهم البائسة المعلَّقة على المرتفعات, صارخين بمن لا يدريأن الأرض تنزلق وأنّ الجسور جميعها ستنهار, والجميع مذعورون لا يدرون أيّ جسريسلكون للهروب من قسنطينة.

لأنني رجل منطقي, وجدت لهذا الحلم سبباً آخر, يعود لذلك المقال الذي قرأته عندما كنت في الجزائر ونسيته منذ ذلك الحين,وأظنه عاداليوم ليطفو على سطح الشعور.
وكان زميل لي, أمدّني بتلك الجريدة بالفرنسية, وقالممازحاً بلهجة أبن العاصمة ” إتهلكت عليكم يا خو قسمطينة راحت. كاش نهار تقومواتِلقاوْ رواحكم قاع تحت“.
عنوان المقال كان يعلن بخطِّ كبير بالفرنسية أنّ الأرضتنزلق في قسنطينة, مسبوقاً بعنوان أصغر يسأل ” ماذا تنتظر الحكومة؟
المقال كانمرعباً في معلوماته, مؤكداً أن ظاهرة انزلاق الأرض التي تتعرض لها المدينة تتزايد, متقدمة بعدّة سنتيمترات سنوياً, وأن أكثر من مائة ألف نسمة على الأقل يعيشون داخلالخطر في المساكن التي, لفقر أصحابها الوافدين من كل صوب, بنيت كيفما اتفق علىالمنحدرات الصخرية, مما زاد من الأخطار التي تهدد جسر سيدي راشد الذي لم يشفع لهوقوفه على 27 قوساً حجرياً.
مصير جسر القنطرة ليس أفضل, هو الذي مذ بناه الرومانيلهو بالمخاطر. وبرغم اعتباره من أعجب البناءات, ظلَّ معطلاً خمسة قرون حتى جاءصالح باي فجلب له مائة عامل من أوربا لبنائه تحت إشراف مهندس إسباني, قبل أن يهدمهالفرنسيون ويعيدون في القرن التاسع عشر بناء الجسر القائم حالياً.

ما غزاقسنطينة غازٍ, أو حكمها حاكم إلا وبنى مجده بإعادة بناء جسورها غير معترف بمن بنوهاقبله! مما جعل آمال القسنطينيين معلَّقة كجسورهم, إلى ما سيقرره الخبراء الأمريكيونوالكنديون واليابانيون الذين تقول الجريدة إنهم سيتشاورون حول أحسن طريقة لإنقاذمدينة تعيش منذ 2500 سنة محصَّنة كعشّ النسر في الأعالي.. معجزة أبدعها الحجروأفسدها البشر.
لم أحكِ شيئاً من كلّ هذا لفرانسواز. كان يكفي ما ينتظرها منكوابيس النهار.
تقاسمنا روزنامة التفاصيل المزعجة للموت, ذهبت فرانسواز لتتابعالإجراءات الإدارية, بما في ذلك المرور على المستشفى واستلام أشياء زيان, بينماذهبت أنا لأنهي بعض ما تأخر من مشاغلي, ومراجعة الخطوط الجزائرية.

عصراًفاجأني هاتف منها. قالت بسعادة:
حسناً أن أكون وجدتك. بيعت اللوحة. نجحت في أنأؤمّن لك المبلغ نقداً, لأنه ماكان بإمكانك أن تمرّ لاستلام المبلغ, فليس أمامك وقتعلى الإطلاق. لن تجدني.. كارول ستتولى الأمر.
لم أدرِ إن كانت تزفّ لي مكسباً أوخسارة. بقيت صامتاً.
قالت:
لا تقل لي إنك نادم! نحن محظوظون. كان يمكنألاَّ ننجح في بيعها قبل عدة أيام.
كان كلّ شيء حسم. لم أشأ أن أدخل في جدلالاحتمالات.
قلت مختصراً الحديث:
حسناً.. أنا آتٍ.
انتابني بعد ذلكأحاسيس متناقضة وأنا في طريقي إلى الرواق. أدركت أنني سأرى تلك اللوحة لآخر مرة, بدون أن أنسى أنني,في ذلك المكان, رأيت حياة لأول مرة بعد عامين من القطيعة.
كيفلمكان أن يجمع في ظرف أيام, الذكرى الأجمل ثم الأخرى الأكثر ألماً؟
مرّة لظنكأنك استعدت فيه حبيباً, ومرة لإدراكك في ما بعد أنك فقدت فيه وطناً.

لفرطإمعاني في إغفال الحبّ, كان يأتيني متنكراً في النسيان, حين لا أتوقعه. كيف تستطيعقتل الحب مرة واحدة, دفعة واحدة, وهو ليس بينك وبين شخص واحد. إنه بينك وبين كل ماله علاقة به.
عند باب الرواق قابلني ملصق المعرض وعليه صورة إحدى لوحات زيانالتي تمثل باباً عتيقاً نصف مفتوح, وقد وضع على أعلى زاويته اليسرى وشاح حداد يعلنموتالرسام. وقفت أتأمله لحظات كأني أريد أن أتأكد من صدق الحدث.

استقبلتنيكارول بمودة. كانت متأثرة لموت زيان الذي عرفته منذ مجيئه إلى فرنسا. دعتني إلىمكتبها, معبّرةً عن ألمها لأنه لن يكون هنا عند انتهاء المعرض كعادته. أمدتنيبالمبلغ الذي دفعته يوم اشتريت اللوحة, وقالت:
آسفة, لم تستمتع حتى بامتلاكهالفترة.
قلت:
قد يكون هذا أفضل. ربما كنت تعوَّدت عليها, أو تعوَّدت هيعليَّ. غيّرت هذه اللوحة صاحبها دون أن تغيِّر مكانها, انتقلت من ملكية إلى أخرى, من دون حتّى أن تنتبه لذلك!
لم أحاول أن أعرف من اشتراها. تركتها شاكراً, وأناأفكر في أنني أستعيد بذلك المبلغ, لا ثمن اللوحة, بل ثمن تلك الجائزة التي كأننيحصلت عليها لأموِّل بأفضل صورة للموت فاجعة موت آخر. لقد ازدهر الموت عندنا وأثرىحتّى صار بإمكانه أن يموِّل نفسه!

لم يفاجئني وأنا أقوم بجولة في المعرض ألاأرى أحداً من الزوار. لا أظنه كان وقتاً لارتياد المعارض.. ولا وقتاًللموت.
كانت الساعة الرابعة ذات بداية أسبوع, من نهاية سنة, والناس مشغولونبإعداد أفراحهم. فهل تعمَّد أن يستفيد من انشغال الحياة عنه حتى يتسللّ منقبضتها؟
لم أحزن لخلوّ المعرض. بل سعدت لأنه كان لي وحدي. شعرت أنني أمتلك كلّتلك اللوحات لبعض الوقت, في انتظار أن أخسرها جميعها. وحدهم الأثرياء يرفضون أن تتمعملية امتلاكهم للوحة بعيون القلب.
كنت سعيداً, لأنني كنت هناك لأفعل الشيءالوحيد الذي تمنيته ولم يحدث, أن أتجوَّل في هذا المعرض مع زيان.
ذلك أنه حتماًسيحضر, فلا يمكن أن يخلف موعداً مع لوحاتٍ تتشوق لإنزالها من أزاميل الصلب والعودةإلى كنف رسامها.
الجميع مشغول عنه. وهو يملك أخيراً كل الوقت. ويمكننا أن نتوقّفلنتحدَّث طويلاً أمام كل لوحة, لولا أنني أنا الذي لا وقت لي, ولا أدري بماذا أبررله انشغالي, وضرورة أن أتركه بعد حين قبل أن تغلق الخطوط الجزائريةمكاتبها.
سيلعن هذه الخطوط ويسألني ” ماذا أنت ذاهب لتفعل في ذلك البلد.. أثمةمهبول يذهب لقضاء رأس السنة هناك؟“.
ولن أجد ما أجيبه به. ثم عندما لن يستطيعاستبقائي أكثر, سيودعني كعادته قائلاً ” سنواصل الحديث غداً”, مضيفاً بعد شيء منالصمت ” إن كان لديك وقت“.
كانت هذه طريقته في الترفع عن استجداء زيارة.
لكنأزفت ساعة الرحيل يا صديقي. لقد انتهى وقت الزيارة الكبرى. لم يبق من الوقتِ حتى مايغطي تلك الزيارات المبرمجة للمشافي. مات الوقت يا عزيزي. أنت الآن في ” الوقتالمجمد“.

أكان يعرف ذلك؟
كان في رسمه الأخير زاهداً في الحياة, كأنه يرسمأشياء تخلَّى عنها أو تخلَّت عنه.
جثث أشياء ما عادت له, ولكنه ظلّ يعاملهابمودة العشرة, بضربات لونيّة خفيفة كأنه يخاف عليها من فرشاته, هي التي ما خافتعليه من خنجرها.
كان يرسم فاجعة الأشياء, أو بالأحرى خيانتها الصامته أمامالفاجعة. ككل هذه الأبواب التي تشغل عدداً من لوحاته.
أبواب عتيقة لوَّنها الزمنمذ لم نعد نفتحها. أبواب موصدة في وجوهنا, وأخرى مواربة تتربص بنا. أبواب آمنة تنامقطة ذات قيلولة على عتبتها, وأخرى من قماش تفصل بين بيتين تشي بنا أثناء ادّعائهاسترنا.
أبواب تنتظر خلفها وقع خطًى, أو يدٍ تهمّ بطرقها, وأخرى ضيقة نهرب إليهاوإذ بها تفضي إلينا, ونحتمي بها, فتحرّض العدوان علينا. وأخرى مخلوعة تسلّمنا إلىقتلتنا.نغادرها على عجل مرعوبين, أو نموت غدراً على عتباتها مخلّفين فردة حذاء. أوَليست فردة الحذاء, في وحدتها, رمزاً للموت؟

عندما رأيت كل هذه اللوحاتلأول مرة. سألت فرانسواز عن سرّ هذه الحوارات المطوّلة التي يبدو أن زيان أقامها معالأبواب. قالت” عندما يدخل رسام في مرحلة لا يرسم فيها فترة سوى الموضوع نفسه, يعنيأن ثمة حدثاً أو وجعاً ارتبط بذلك الموضوع“.
لم أسألها أيّ وجع وراءها ولا أظنهاكانت تعرف ذلك, فيوم احتدم النقاش بيني وبين مراد حول لوحات الأبواب التي لم يكنيرى فيها مراد سوى أفخاذ نساء مشرّعة حيناً, مواربة أحياناً أخرى, بدت لانبهارهابنظريته كأنها تشاركه الرأي صمتاً.
الآن فقط.. وأنا وحدي أتنقل بينها متمعناً فيتفاصيلها الصغيرة, أخالني وقعت على فاجعة الجواب من خلال حديث بعيد مع فرانسواز, يوم أخبرتني بمرض زيان عندما قالت ” إن اغتيال ابن أخيه دمّره حتى أظنه السبب فيالسرطان الذي أصابه. السرطان ليس سوى الدموع المحتبسة للجسد.. معروف أنه يأتيدائماً بعد فاجعة

بقيت أتحين الفرصة لأسأل زيان عن تفاصيل موت ابن أخيهلاعتقادي أن تفاصيل تلك الميتة دمّرته أكثر من الموت نفسه.
كنا نتحدث مرة عنالتشكيلة العجيبة لموت الجزائريّ عندما قال زيان بتهكم أسود:
أصبح ضرورياًاصدار كاتولوغ للموت العربيّ, يختار فيه الواحد في قائمة الميتات المعروضة طريقةموته.مستفيداً من جهد أمة تفوقت في تطوير ثقافة الموت. فقد تختار بدل أن تموت ميتةكرديّة مرشوشاً كالحشرة بالمبيدات الكيماوية, أن يكون لك شرف الموت بالمسدس الذهبيلآله الموت نفسه أو أحد أبنائه. وقد تفضّل بدل أن تسلَّم حياً لتنهشك الكلابالجائعة, وتدور بأحشائك في ساحة سجنٍ كما حدث في سجون مغاربية, أن تحفر بنفسك قبركوتتمدد فيه بملء إرادتك, فيذبحك الإرهابيون وأنت مستلقٍ في وضعك النهائيالمفضّل.
إمكانك أيضاً أن لا تموت دفعة واحدة. ثمة أنظمة عربية تقدّم تسهيلات فيالموت, فتلقمك إياه ابتداءاً من قلع الأظافر وحرق الأصابع بالأسيد, إن كنت صحافياً, وانتهاءً بسمل العيون وبقر البطون حسب مزاج سفاحك.
كان يتحدث بمرارة الاستخفاف. جمعت شجاعتي وقلت:
آسف, سمعت باغتيال ابن أخيك.. كيف حدث ذلك؟
قال وقدباغته السؤال:
سليم؟
ثم واصل بعد شيء من الصمت:
مات أكثر من مرة.. آخرها كانت بالرصاص.
كان واضحاً أنني وضعت يدي على وجع طازج. لم أضف شيئاً, تركتله حرية أن يصمت أو أن يواصل.
وكإناء يطفح حزناً تدفق:
من بين كل الميتاتالتي عايشتها في هذا العمر كانت ميتة سليم هي الأكثر ألماً. حتى موت أبيه وهو أخيالوحيد ما كان لها هذا الوقع على نفسي. شابّ وجد نفسه يتيماً عندما قتل رجال الأمنأباه في مظاهرات 88 فراح يدرس ليلاً نهاراً ليستطيع بسرعة إعالة أمه وأخويه, حتىإنه لتفوقه استطاع دخول المدرسة العليا لتكوين الكوادر. كان شاباً مولعاً بالعلم, فأرسلته الدولة لفرنسا لمدة ستة أشهر للدراسة, كي يتمكن من إدخال نظام المعلوماتيةإلى أجهزة الجمارك في قسنطينة.
عندما استلم وظيفة كان الإرهابيون قد بدأوا فيقتل موظّفي الدولة, وبعدما استشعر بالخطر إثر اغتيال زميلين له, بدأ إلحاحهبالمطالبة بسكن أمنيّ, فأعطوه بيتاً منفياً على مشارف جبل الوحش. لم يكن مرتاحاًإليه, تصور مسكناً أمنياً دون هاتف.. بمحاذاة غابة! أصبح كل هم سليم توفير مبلغ منمعاشه لتصفيح الباب, فقد كان المبلغ بالنسبة إليه ثروة صغيرة, وكان باستطاعته لوشاء الحصول على أضعافه لو أنه طالب بعمولة على عشرات المعدات التي كلّف بشرائها منفرنسا. لكنه كان نزيهاً بالوراثة, مترفعاً وقنوعاً وكان يحب الجزائر. ولذا في زمنالنهب المؤدلج وشرعة اللصوصية كان يقتطع مبلغاً من مرتبه كي يتمكن في لهاث الكدحاليومي, أن يظفر بباب يحميه من القتلة.
لكنهم جاؤوه عندما اعتقد أنه ظفربالأمان. كانت الساعة الحادية عشرة ليلاً عندما حطّت كتيبة الموت خلف بابه المصفح, تماماً بعد بدء منع التجول بقليل. مطمئنين إلى أن لا أحد سيأتي بعد الآن لنجدته, ومستفيدين من حالة البلبلة السائدة, إذ لا أحد يدري في هذه الحالات إن كان رجالالأمن هم الذين يحاولون دخول بيتٍ تحصّن فيه الإرهابيون, أو الأرهابيون هم الذينيهاجمون بيتاً لأحد ضحاياهم.
كما في فيلم أمريكي للرعب يقف فيه الضحية أعزل خلفباب تحكمه من الطرف الآخر وحوش بشرية,جاؤوا بعدة الموت وكل الآليات المتطورة لفتحالأبواب صارخين به أن يفتح, فلا يفعل مطمئناً إلى بابه المصفّح.
لم يكن الموت فيصحبتهم. كانوا هم الموت. أربع ساعات ونصف والموت خلف الباب يتحداه على إيقاع الفؤوسوزمجرة المعاول بالشتائم والمسبات أن يفتح ” حلّ يا قوّاد.. يا رخيص.. جيناك ياكافر.. يا عدو الله“.
فيرد القلب خلف الباب بالدعوات عسى يحميه رب الأبواب. لميشفع له نحيب زوجته ولا عويل صغيره ولا جاء أحد لنجدته من الجيران. لا سمع البوليسولا سمع الله برغم الأصوات المدوّية للآلات التي كانوا يفتحون بها الباب. وبعد أنمات سليم أكثر من مرة, بدأ يستعد لموته الأخير. فكلما تقدم الوقت وازداد الموتاقتراباُ منه, ازداد القتلة عصبية وازداد وعيدهم بالتنكيل به.
هو الذي كل ما فيهكان يرتجف. الخائف من كل شيء وعلى كلّ شيء, من أين تأتيه شجاعة الضعف ليفتح البابويرتاح؟ من أين تأتيه الحكمة لحظة خوف, ليعرف كيف عليه أن يتصرف؟ ماذا ينقذ قبل أنيفتح الموت عليه الباب؟
ما استطاع أن يحمل ابنه ذا السنوات الثلاث بين ذراعيهالمرتجفتن. فجلس منهاراً على كرسيّ, بينما كان ابنه متمسكاً برجله, كان يوصي امرأتهكل مرة بشيء يتذكره. مرةً أن تقبّل أمه عنه وأن تطلب منها أن تسامحه وأن تدعو لهبالرحمة. ومرة أن تسلّم عليّ وأن توصيني بعد الآن بابنه. ومرة أن تعتذر لزميل لهاستدان منه مالاً, طالباً منها سداده إن هي حصلت على ” دية” من الجمارك.
وهنارأيت زيان يدمع لأول مرّة:
تصور.. رجلاً على حاجته يوصي امرأته في ظرف كذاكبردّ دينه بعد موته, بينما سادة لهم مدخول من الجثث ينهبون وطناً والناسيموتون.
وكيف قُتل سليم؟
على الثالثة والنصف فجراً نجح الموت في خلعالباب, كان منهاراً على ركبتيه. راح يتضرع لهم حتى لا يقتلوه أمام صغيره. سحبوهخارج البيت وأطلقوا عليهوابلاً من الرصاص, مرضاة لصبر الموت الذي أهين أمام ذلكالباب المحكم لأربع ساعات ونصف.
كان جسده مخرماً. أصبحت معركتنا في الأياماللاحقة مع الإسمنت الذي تشبّث بدمائه.

أتساءل الآن , إن كان مفتاح شيفرةهذه اللوحات يوجد في قصة رجل وضع كل مدّخراته في تصفيح باب ليردّ عنه الموت, وإذ بهلم يشتر بذلك الباب سوى تمديد لعذاب موته. ألم يكن زيان يريد فقط أن يوحي أن وراءكل باب موت متربّص.
ما كان في القلب متسع لمزيد من الألم, ولا كان لديّ الوقتلأفتح حواراً مع كل لوحة على حدة. ذهبت مباشرة نحوها هي. شعرت أنني أذهب إلى موعدمع امرأة أصبحت متزوجة من غيري. كما عندما كنت أذهب إلى مواعيد حياة. فهل تنتمياللوحات أيضاً إلى مؤسسة الخاتم والإصبع؟ هل هي ملك من يمتلكها.. أم من يراها؟ ملكمن يحبها؟ أم من يملك المال فيشتريها؟ وماذا لو كانت لمن خسرها, لأنه وحده منيشتهيها!
أكان في مقدوري تفادي هذه الخسارة؟ بإمكاني أن أؤجلها فقط. فما أنا إلايد في حياة كل شيء أمتلكه, تسبقني إليه يد, وتليني إليه أخرى, وجميعنا يملكه إلىحين.
الأفضل كان أن نستشير الأشياء, كما يستشير القاضي عند الطلاق الأطفال, مع نيريدون أن يذهبوا, مع أمهم؟ أم مع أبيهم؟
أيّ تجنِّ في حق الأشياء, ألا يكونلها حق اختيار مالكها؟ كم من المشاكل كانت ستحل لو أننا بدل استفتاء البشر, استفتينا ما يختلفون حوله.. ويقتتلون عليه.

وقفت أتأملها, كأنني أعتذر لهالأنني ما استطعت أن أحتفظ بها, كأنني بطول النظر إليها أحاول اغراءها بأن تلحق بيخطيفة” كما تهرب عروس ليلة زفافها , وتلتحق بمن تحب.
الآن وقد أصبحت لغيري, صارلي الدور الأجمل, فقد أصلح أن أكون لها عشيقاً, كقسنطينة الجالسة منذ 25 قرناً فيحضن التاريخ, تمشّط شعرها وتمدّ من علوّ عرشها حديثاً مع النجوم. كان يلزمها عشيقيتغزّل بها, ويحنِّي قدميها المتدليتين في الوديان, يدلّلها, يغطيها ليلاً بالقبلكي تنام.. لا زوجاً سادياً يعود كلّ مساء بمزاج سيء فيتشاجر معها ويشبعهاضرباً!
ألم يقل عبد الحق متحسراً على قدر قسنطينة ” هذه أنثى أكثر فتنة من أنتكون امرأة لأحد, وأكثر أسطورة من أن تحبل بكلّ هذه الأجنة العشوائية. فكيف أوثقوهاإلى هذه الجبال.. وأنكروا عليها أن تتململ انزلاقاً لحظة اغتصاب“.

كنّا أناوهي في مناظرة صامتة. كانت, كنساء قسنطينة, أكثر جبناً من أن تحسم قدرها. وكانت منذلك النوع من اللوحات, الذي ينظر إليك تلك النظرة المخترقة, فتتحول أمامها بدوركإلى لوحة, في لحظة ما, بدت لي كأنها ما عادت جسراً, بل أنا الذي مسخت جسراً. حتىإنها ذكرتني بـ” ماغريت” حين رسم غليوناً وسمّى لوحته ” هذا ليس غليوناً“.
أكانيلزم زيان عمر آخر ليدرك أن هذا الشيء الذي رسمه منذ أكثر من ثلاثين سنة, ما كانجسراً ولا امرأة ولا مدينة ولا وطناً. ذلك أن ” الوطن ليس مكاناً على الأرض إنهفكرة في الذهن“.
إذن من أجل فكرة, لا من أجل أرض, نحارب ونموت ونفقد أعضاءناونفقد أقرباءنا وممتلكاتنا. هل الوطن تراب؟ أم ما يحدث لك فوقه؟
أنسجن ونشردونغتال ونموت في المنافي ونهان من أجل فكرة؟
ومن أجل تلك الفكرة التي لا تموتحتى بموتنا نبيع أغلى ما في حوزتنا, كي نؤمن تذكرة شحنٍ لرفاتنا, حتى نعود إلى ذلكالوطن الذي ما كان ليوجد لولا تلك الفكرة المخادعة!

كنت أفكر : ماالذي جعلهذه اللوحة هي الأهم دون غيرها لدى زيان؟ لم أجد جواباً إلا في قوله ذات مرة:” نحنلا نرسم لوحاتنا بالشيء نفسه, كل لوحة نرسمها بعضو فينا”. منذ زمان توقفت عن رسمالأشياء بيدي أو بقلبي. جغرافية التشرد الوجداني علمتني أن أرسك بخطاي. هذا المعرضهو خريطة ترحالي الداخلي. أنت لا ترى على اللوحات إلا آثار نعلي. بيكاسو كان يقولأذهب إلى المرسم كما يذهب المسلم إلى الصلاة,تاركاً حذائي عند الباب”. أنا لا أدخلاللوحة إلا بأتربة حذائي. بكل ما علق بنعلي من غبار التشرد.. أرسم“.
كانت, إذن, اللوحة التي رسمها زيان بقلبه, ومن كل قلبه قصد أن يتمدد عليها كجسر ويخلد إلىالنوم.
بها بدأت وانتهت قصة العجوز والجسر. رجل عاش في مهب الجسور. له الريحكلها وكل هذه الأبواب المخلوعة التي تؤثث الجدران في غيابه وتعبث بها الريح فيالمساء, لكأنها تقول لمن توقف عندها: ” لا تطرق كل هذا الطرق.. ما عاد الرسامهنا“.

هو الذي كان يعكس أسئلته جسوراً وأبواباً. تصورته كلما توقف أمام لوحةيجيب بجديته العابثة على سؤال لها:
لماذا توقفت عن الرسم؟
لأنسى .. ” أنترسم يعني أن تتذكر
لماذا تخليت عن الألوان المائية؟
لأن الألوانالزيتية تسمح لك بتصحيح أخطائك.. أن ترسم أي أن تعترف بحقك في الخطأ.
يا سيدالسواد.. لماذا أنت ملفوفاً بكل هذا البياض؟
لأن الأبيض خدعة الألوان. يومطلبوا من ماري أنطوانيت وهم يقودونها إلى المقصلة, أن تغيِّر فستانها الأسود.. خلعته وارتدت ثوبها الأكثر بياضاً.
لماذا أنت على عجل؟
أمشي في بلادونعلي يتحسَّس تراب وطن آخر.
ولماذا حزين أنت؟
نادم لأني ارتكبت كلّ تلكالبطولات في حقّ نفسي.
ماذا نستطيع من أجلك نحن لوحاتك المعلقة على جداراليتم؟
متعب! اسندوني إلى أعمدة الكذب.. حتى أتوهم الموت واقفاً!

***

 

مساءً , عدت إلى البيت محملاً بزجاجة خمرٍ فاخرة, وبقارورة عطر ملفوفةبكثير من الشرائط الجميلة هدية لفرانسواز.
كنا في أعياد نهاية السنة. كلّ شيءكان يذكرك بذلك. وأنت الذي لا تملك ثقافة الفرح, إمعاناً منك في الألم, عليك أنتنفق ما بقي من ثمن تلك التذكرة في تبضع مبهج.
فوجئت فرانسواز بحمولتي وهي تفتحلي الباب. سألتني إن كنت أحضرت التذاكر.
طمأنتها:
نعم. ثم واصلت: هذا العطرلك.
قالت وهي تقبلني:
شكراً. كيف فكّرت في هدية, في خضم هذه الأحزان؟
ليس أمامي إلا اليوم لأشكرك على كلّ شيء.
قرَّرت لليلةٍ أن آخذ إجازة من المآسيبما يقتضيه الموقف من تطرّف الحزن. إحساس عصيّ على الإدراك ينتابني دائماً. رغبة فيأن أعيش تعاسة خالصة أو سعادة مطلقة. أحبّ في الحالتين أن أدفع باللحظة إلى أقصاها, أن أطهو حزني بكثير من بهارات الجنون وتوابل السخرية, أحب أن أجلس إلى مائدةالخسارات بكل ما يليق بها من احتفاء, أن أحتسي نبيذاً فاخراً, أن أستمع إلى موسيقىجميلة, أنا الذي لم يكن لي وقت لأستمع إلى شيء عدا نشرات الأخبار.
وحدها تلكالسخرية, ذلك التهكم المستتر, بإمكانه أن ينزع وهم التضاد بين الموت والحياة, الربحوالخسارة.

قبل أن أجلس إلى كأسي, طلبت ناصر لأخبره بوفاة زيان, وكنت أجّلتالاتصال به إلى اليوم, حتى لا أجدني مضطرَّاً إلى الحديث مع مراد, الذي انتهى أمرهبالنسبة لي, وحتى لا ينقل ناصر الخبر إلى حياة فتفسد عليّ قدسية حزني. فقد أصبح موتزيان قضيتي وحدي.
صاح ناصر من هول الخبر:
إنّا لله وإنّا إليه راجعون.. ياخويا مش معقول كنت معاه غير هاذ الجمعة.. كان يبان لا بأس عليه.. الدنيا بنت الكلبتدّي الغالي وتخلّي الرخيص.. كان سيد الرجال.
أخبرته أن الجثمان سينقل غداً إلىقسنطينة وأننا سنكون في المطار عند السادسة مساءاً , إن كان يريد أن يقرأ الفاتحةعلى روحه.
قال إنه سيأتي طبعاً. وبدا متأسّفاً لغياب مراد الذي سافر قبل يومينإلى ألمانيا. كان هذا أجمل خبر زفّه لي. سألني إن كان سيحضر أحد من السفارة. قلتلا أعتقد”. قال ” موعدنا إذن غداً“.

كانت فرانسواز أثناء ذلك طلبت بيتزا إلىالبيت. فقصدت المطبخ أعدّ سلطة, وأقلي صحناً من ” النقانق” التي اشتريتها قبل يومينمن جزّارة ” حلال” . فلتناقضاته الغريبة يصرّ الجزائري حتى وهو يحتسي نبيذاً ألاَّيتناول معه إلا اللحم الحلال!
قالت فرانسواز وهي تراني أضع الصحن علىالطاولة:
يا إلهي.. كم في هذا الصحن من مواد دسمة. أتدري أن زيت القليّة عدوكالأول؟
ابتسمت. كيف لي أن أرتب سلم العداوات, وأين أضع أعدائي الآخرين إذن, إذاكان الدسم هو عدوي الأول! وأين هي عداوة الزيت, ومكيدة الزبدة, وغدر السجائر, ومؤامرة السكّر, ودسائس الملح, من غدر الأصدقاء وحسد الزملاء وظلم الأقرباء ونفاقالرفاق ورعب الإرهابيين ومذلة الوطن؟ أليس كثيراً كل هذه العداوات على شخصواحد!
تذكرت زيان يوم طلب مني أن أغلق باب غرفته كي يشعل سيجارة. سألتهمتعجباً:
أوَليس التدخين ممنوعاً في المستشفى؟
ردَّ مبتسماً:
طبعاً.. بل يعادل ارتكاب جريمة. لكن كما قال أمل دنقل لطبيبه وهو على سريره الأخير:” خُلِقالقانون ليخترق”. ثم أنت لا تستطيع يا رجل أن تعيش وتموت مطيعاً, ولا أن تكونجباناً في السابعة والستين من عمرك.. وتخاف سيجارة!
تأملت يومها منفضته المخبأةفي جارور الطاولة الصغيرة القريبة من سريره. كانت ملأى بأعقاب سجائر تكاد تكونكاملة, كحرائق أخمدت على عجل, كأنه لم يسحب منها سوى نَفَس واحد.

كان يبددالحياة, كما يتلف السجائر لمتعة إشعالها. ما كان في المنفضة من وجود لأعواد ثقاب. إن رجلاً بيد واحدة لا يمكن أن يستعمل علبة كبريت, ألذا لا تفارقه الرغبة في إضرامالنار؟
قال متهكماً:
لا تصدق أن الأشياء مضرة بالصحة. وحدهم الأشخاصمضرّون. وقد يلحقون بك من الأذى أكثر مما تلحق بك الأشياء, التي تصرّ وزارة الصحةعلى تحذيرك من تعاطيها. ولذا كلَّما تقدَّم بي العمر, تعلَّمت أن أستعيض عن الناسبالأشياء, أن أحيط نفسي بالموسيقى والكتب واللوحات والنبيذ الجيد, فهي على الأقل لاتكيد لك, ولا تغدر بك. إنها واضحة في تعاملها معك. والأهم من هذا أنها لا تنافقكولا تهينك ولا يعنيها أن تكون زبّالاً أو جنرالاً.
واصل ساخراً:
قرأت منذمدّة أن زبالاً في فرنسا فقد ذراعه بعدما علق قفّازه في أسنان مكبس الشاحنة, بينماكان يحاول دفع النفايات الضخمة بيده بعيداً في جوفها. فكرت أن هذا الرجل الذي فقدذراعه في معركة الحياة “القذرة” وهو ينازلها للحصول على لقمة نظيفة, لن تكون لهوجاهة ضابط فقد ذراعه في معركة من أجل الإستيلاء على الوطن. فالأعضاء تساوي مايساويه أصحابها. الجنرال أنطونيو لوبيز دي سانتانا الذي حكم المكسيك حكماًدكتاتورياً ثلاث مرّات, أقام جنازة رسمية مهيبة لساقه اليمنى التي فقدها في ما يسمىحرب الفطائر. فبين ذراع الزبال وساق الجنرال فرق خمس نجوم. نحن لسنا متساوين فيالإعاقة سوى أمام الأشياء. فالرّجْل الخشبية التي كانت تحمل ذلك الجنرال.. وحدها لمتكن ترى نجومه!

أكثر من فنّه, كانت حكمة ذلك الرجل هي ما يذهلني. ذلك أنصوته لم يفارقني. كان يأتي في كل مناسبة ملتبس الإضاءات في جملة. وسعادتي اليومتكمن في تلك الأشرطة التي سجّلت عليها جلسات حواراتنا, يوم كان, وهو ممدد في ذاكالسرير مربوطاً إلى أكسير الذاكرة, يحدثني عن قناعات سكن فيها مع العمر.
رجل ماتوترك لي صوته. صوته ذاك, بين غيوم اللغة وصحو الصمت, يتقدَّم ككاسحة أوهام, يدرّبكعلى فنّ إزالة خدع الحياة الفتّاكة وألغامها.
وقفت أبحث عن أغنية تناسب مزاجي, أغنية كمكعّبات الثلج, كانت تنقص كأسي. كنت أريدها عربية. استأذنت فرانسواز فيسماعها, ذلك أن الحزن في هذه الحالات كالطرب لا يكون إلا عربيَّا.
سألتني عنكلماتها. ما كانت لي رغبة في أن أشرح لها الأغنية, لكنني قلت بمجاملة:
إنهاأغنية يتوجّه فيها المغني لامرأة قاسية.. أحبّها وتخلَّت عنه.
كيف أترجم لهاأغنية تحيك لك مؤامرة بكاء, وتذبحك فيها الكمنجة ذهاباً وإياباً. أية لغة, أيةكلمات, تحمل كمَّا كافياً من الشجن لتقول بها:
– ”
آآآه يا ظالمة.. وعليك انخلّيأولاد عرشي يتامى“.
شعرت أن لا عجب في تشابه حياة بهذه المرأة التي يبكيهاالفرقاني. لكأن كل أغنية في العالم أيّاً كان من يغنيها, هو لا يبكي ولا يشكوسواها. هي المتهم الأول في كل أغاني الحبّ, الخائن دوماً في كل قصة, الجاني في كلفيلم عاطفيّ, وبإمكانك إلباسها كلّ الجرائم العشقية عبر التاريخ.
سألتنيفرانسواز:
أكلّ الأغاني العربية حزينة هكذا؟
أجبتها كمن ينفي تهمة:
لا.. ليس دائماً.
ردت كأنها تجاملني:
قد يكون هذا الحزن سر رومنطيقية العربوتمتعهم بذلك السخاء العاطفي.
قلت متهكماً:
سخاؤنا العاطفي يا عزيزتي سببهيتمنا لا حزننا, لاأكثر سخاءً من اليتامى. نحن , على كثرتنا أمة يتيمة, مذ تخلّىالتاريخ عنّا ونحن هكذا… اليتيم كما يقول زيّان لا يشفى أبداً من إحساسهبالدونية- واصلت بعد شيء من الصمت- العطر الذي أهديتك إياه ” شانيل رقم “5” دليلعلى ذلك. حتى عندما نجحت كوكو شانيل واشتهرت, لم تشف من عقدة يتمها.. وأطلقت علىعطرها الأول الرقم الذي كانت تحمله في دار الأيتام التي تربَّت فيها. لاحظي بساطةالقارورة في خطوطها المربعة دون أيّ نقوش أو فخامة أو طلاء. ذلك أن اليتم عارٍوشفاف إلى ذلك الحد. حتى أنه لا يحمل اسماً . بل رقماً. إن معجزة شانيل ليست فيابتكارها عطراً شذيًّا, بل في جعلها من اليتم عطراً ومن الرقم اسماً.
قالتفرانسواز مندهشة:
عجيب.. لم أكن أعرف هذا.
هذا أمر لا يعرفه الكثيرون. وربما لم تكن تعرفه حتى مارلين مونرو التي كانت لا تتعطَّر بغيره, حتى إنها عندماسئلت مرة ” ماذا ترتدين للنوم؟” أجابت ” بضع قطرات من شانيل رقم 5″. وفهم من كلامهاأنها لم تكن ترتدي شيئاً.
يا إلهي من أين لك هذه المعلومات؟
قلتمازحاً:
هذه يا عزيزتي ثقافة اليتم. ثم واصلت بنبرة أخرى: أحدثك عن مارلينمونرو لأنني تذكرتها اليوم في المعرض. يحكى أنها لفرط إحساسها باليتم, كانت تملكالقدرة عند دخولها أي مكان, أن تميز يتيماً من بين أربعين شخصاً. قد فاجأني هذاالإحساس اليوم وأنا أدخل الرواق, كان بإمكان أي زائر للمعرض بدون أن يمتلك هذهالحاسة, أن يكتشف يُتْم تلك اللوحة بين كل اللوحات.
مرعب ذلك الإحساس الذيتخلّفه في قلب أي ناظر إليها. ما كنت قبل اليوم لأصدق يُتْم اللوحات. على كلٍّ.. ماكان في المعرض زوار ليلحظوا ذلك.
قالت فرانسواز:
لا تقلق, الناس مشغولونبالأعياد.. والكثيرون لم يسمعوا بموت زيان بعد.
ثمواصلت بتذمر:
بالمناسبة.. أتدري أن الرواق قد باع تلك اللوحة بـ 50 ألف فرنك؟ كسب 20 ألف فرنك مندون حتى أن تتحرك اللوحة من مسمارها. كان يكفي أن تتصل كارول هاتفياً بأحد زبائنهاوتخبره أن الرسام مات , ليتضاعف السعر.
قلت بغضب:
مكر سماسرة الفنون. ينتظرون موت الرسام, ليصنعوا ثروتهم من فنّ لم يستطع صاحبه التعيّش منه, ولا أنيضمن به موتاً كريماً.
سألتها بفضول:
من اشتراها بهذه السرعة وبهذاالثمن؟
كنت أتوقع أن يكون المشتري أحد أثرياء المهجر الجزائريين الذين, وقدانتفخت حساباتهم بالمال المنهوب, درجوا على تبييض سمعتهم بالتسابق إلى شراء كل مايعرض لكبار المبدعين الجزائريين, فلا أرى غير أحدهم بإمكانه أن يدفع خمسين ألف فرنكلشراء لوحة تعرض عليه بالهاتف, وقد سمعت أحد هؤلاء يقول مرة في مجلس مبرراً ولعهالمفاجئ بالفن ” إن كسب المال موهبة, وإنفاقه ثقافة”. أثبت بما اختلس من أموال أنهموهوب” لم يبق عليه إلا أن يثبت بما يقتني أنه مثقف!
غير أن فرانسواز فاجأت كلتوقعاتي وهي تقول:
إنه فرنسي ثري من ذوي ” الأرجل السوداء” يملك لوحات نادرةمنها مجموعة من لوحات ” Les orientalistes “, وأخرى لمحمد راسيم. اشترى مؤخراًلوحات لأطلان عرضت للبيع. حتماً سمعت بأطلان.. رسام يهودي قسنطيني يعتبر أحد وجوهالفن التجريدي, مات في الستينات.. إشتهر بولعه بقسنطينة وبسجنه أكثر من مرة بسببمساندته للحركات التحررية.
كنت لا أزال تحت وقع الدهشة عندما واصلت:
أخبرتني كارول أنه كان يريد أن يشتري لوحات أكثر لزيان, ولكن لم يكن من حق الرواقبيع شيء بعد الآن, عدا لوحتك أنت طبعاً, لأنها بيعت قبل وفاة زيان.
ثم أمام مابدا عليَّ من حزن قامت وجلست جواري تواسيني:
لا تحزن هكذا, إنه رجل يحب الفنومعروف عنه هوسه بكل ما له علاقة بقسنطينة.
زيان عندما عاد لأول مرة إلى قسنطينةأحضر له أشياء صغيرة من هناك. أظنه كان صديق طفولته, أو أنهما درسا معاً أو شيئاًمن هذا القبيل.
سألتها وقد ضاع صوتي:
أتعتقدين أن زيان كان سيبيعهاله؟
قالت:
لا أظن ذلك, فزيان كان يرفض في جميع الحالات بيعها لأيِّ كان. ولولا إحساسه بالموت وثقته فيك لما باعها حتى لك. أظنه كان يود الاحتفاظ بها لنفسه, لكنه ما وجد أحداً ليورثه إياها. ابن أخيه اغتاله الإرهابيون بطريقة شنيعة منذسنتين. وابن أخيه الآخر اختفى قبل سنوات ويعتقد أنه التحق بالإرهابيين, أو مات.أماأخوه الوحيد فقد اغتيل منذ عشر سنوات في أحداث 88.
لا أصعب على فنان من أن لايجد في آخر عمره أحداً يطمئن إليه.. ويأتمنه على أعماله.
قلت بتهكم الحسرة:
تدرين أن تسمية ” الأرجل السوداء” أطلقت على المعمرين الفرنسيين الذين أرسلواللاستيطان في الجزائر بعد الغزو الكولونيالي أوساط القرن التاسع عشر, إذ كانواينتعلون أحذية سوداء سميكة أثناء إشرافهم على المزارع و الأراضي. حتماً هذا الثريما توقع أن يواصل انتعال التاريخ أباً عن جدّ. ولا توقع أن يأتي يوم لا يبقى فيهلهذه اللوحة من قريب سواه.. بعد أن انقرض أهلها في الحروب العبثية. كان عليه انتظارأن ينتهوا من الإجهاز على بعضهم البعض فيحظى بميراث كامل.
لعلها لم تفهم كلامي. قالت:
في سوق الفن, الأمر قضية وقت لا غير. عليك أن تنتظر فقط, وبشيء منالصبر, وبما يلزم من مال, أنت تحصل في النهاية على أية لوحة تريدها. يكفي أن تقتنصالفرصة. أحياناً تصادفك ضربة حظ وتستفيد من لحظة غفلة كما هذه المرة, أثناء انشغالالناس بأعيادهم وقبل أن ينتشر خبر موت الرسام.
قلت وأنا أسكب شيئاً منالخمر:
حتماً.. ما التاريخ إلا نتاج لحظات الغفلة!
ما كنت أبا عبد الله, ولا وجدتني مرغماً على تسليم مفاتيح غرناطة, فلم البكاء؟ إنها خسارات غير قابلةللشماتة, ما دمت اخترتها بنفسي.

عندما كانت تزورني حياة لساعة أو ساعتين علىعجل, ثم تعود مذعورة إلى بيتها, قلت لها مرة:” لا يعنيني أن أمتلكك بالتقسيط. أرفضأن أربحك لساعات تذهبين بعدها لغيري, تلك الأرباح الصغيرة لا تثريني. أنا لست بقّالالحيّ, أنا عاشق يفضّل أن يخسرك بتفوق. أريد معك ربحاً مدمراً كخسارة“.
لم أكنأدري أن أرباحاً فادحة تتوالد خساراتها, كتلك الجائزة التي مذ ربحتها وأنا أشتريبها خساراتي.
أعادني الموقف إلى زيان الذي, في هذا المكان عينه, رقص بين خرائبهبذراعه الوحيدة, كبطل إغريقي مشوّه في تلك الليلة التي تخلَّى فيها عن أكثر لوحاتهلفرانسواز وذهب ليدفن أخاه.
كم تمنيت ألا أتماهى معه في هذا المشهد العبثيالأخير, أنا الذي جئت فرنسا لأستلم جائزة. أكان القدر قد جاء بي, فقط لأكون اليدالتي تسلِّم لوحة وتستلم جثماناً؟
وضعت موسيقى زوربا وجلست أشرب نخبه.
عممساءً يا خالد.
الآن وقد أصبحت جزءاً من هذا الخراب الجميل الذي لا يشبه شيئاًمما عرفت, ستحتاج إلى الرقص كثيراً يا صديقي. فارقص غير معنيّ بأن تفسد سكينةالموتى.
لا تقل تأخر الوقت. أنت تعيش في منطقة عزلاء من الزمن. لا جدوى من النظرإلى ساعتك, ليست هنا لتدلّك على الوقت, بل لتضع رفات الوقت بيننا.
انتهى الآن كلشيء. عندما أصبح كل ذلك الوقت, ما عدت معنياً بالزمن, ترى الأشياء بوضوح, لم يعدبإمكانك أن ترسمها. دخلت منطقة غياب الألوان, ذاهب صوب التراب.

تراب كنتتتوق إليه, أسميته وطنك. (وطنك؟) بإمكانك أن تذهب إليه على حسابك, دون أن تستعدكعادتك قبل موعد. لا جدوى من أناقتك, ففي ضيافة الديدان تتساوى الأجساد يا صديقي, ولن يوجد من يتنبّه لعطبك, لذراعك التي كلّما تعرَّيت أخفيتها عن الآخرين.
ترابيحتفي بك, وديدان أصبحت وليمتها تهزأ من نساء أحببنك وترفعت عن إمتاعهن. كنت ترفضإغراء عاهرة إسمها الحياة, وجئت اليوم تهدي جسد شيخوختك للحشرات.
أيها الأحمق, بعد الآن, كل ما ينسب لغيرك في الفسق أنت فاعله. كل خطيئة يحاسب عليها غيرك أنتمقترفها. كل حكمة يلفظها رجل أنت قائلها. كل امرأة تحبل, أنت من تسلَّل إلىمخدعها.
الآن وقد أصبح كل شيء خلفك, أنت أكثر حكمة من أي وقت مضى, فقموارقص.
ارقص, لأنّ امرأة أحببتها خانتك معي.. وستخوننا معاً.
لأنّ بيتاً كانلك قد صار لسواك.
لأنّ لوحات رسمتها ذهبت إلى أيدٍ لم تتوقعها.
لأنّ جسوراًمجَّدتها تنكرت لك, ووطناً عشقته تخلى عنك.
لأنّ أشياء سخيفة احتقرتها, ستعيشبعدك.
لأنّ حسّان سيكون قريباً منك بعد الآن.
لأنّ أولاده الذين ربَّيتهمسقطوا في خندق الكراهية ولن يكونوا في جنازتك.
لأنّ قسنطينة التي عشقتها أشاحتعنك كما كانت الآلهة الإغريقية تزورّ عن رؤية الجثث..

نهضت فرانسواز نحوالمطبخ حاملة صحون السفرة. ناديتها وأنا أرفع بعض الشيء من موسيقى زوربا:
أرجوك كاترين.. تعالي للجلوس جواري, فعمّا قريب سنواجه مطبّات شاهقة.
قالتمحتجة:
ولنني لست كاترين.
أجبتها بنبرة مازحة:
صحيح.. أنت لم تقرئيتلك الرواية. لو قرأتها لأدركتِ أنني أنا أيضاً لست خالد.
قالت بعدما عادتللجلوس جواري:
أنت ثمل أليس كذلك؟
تعتقدين هذا؟ لأنني قلت لك الحقيقة؟الحقيقة يا عزيزتي تؤخذ من هذيان السكارى. أتدرين أن الطوارق يختارون أسماءهمبالقرعة, وكذلك أنا أصبحت خالد مصادفةً.
واصلت أمام اندهاشها المستخفّبكلامي:
في موسم قطف الرؤوس وحصاد الأقلام, فشلنا نحن الصحافيين في العثور علىأسماء مستعارة نختفي خلفها من الإرهابيين. كلٌّ اختار اسمه الجديد حسب ما صادفه منأسماء. أنا انتحلت اسم بطل في رواية أحببتها.
واصلت بعد شيء من الصمت:
إنشئت الحقيقة, خالد بن طوبال ليس أنا, إنما زيان. ولكن تلك قصة أخرى. في الواقع كانهذا اسمه في تلك الرواية, بينما أصبح هذا اسمي فس الحياة. ففي الرواية أيضاً نحتاجإلى استعارة أسماء ليست لنا, ولذا أثناء انتقالنا بين الاثنين كثيراً ما لا نعودندري من نكون. إنها لعبة الأقنعة في كرنفال الحياة.
ولكن ما اسمك؟
وماذايغيّر اسمي. ما دمت تعرفين لقب فمي وكنية يديّ, فكلَّما مرَّ شيء مني بك ترك إمضاءةعليك.
جميل.. ولكن ما الاسم المكتوب على أوراقك الثبوتية؟
لا أحب أنتكوني رجل بوليس يدقق في هوية عابر. افترضي أننا التقينا في تلك المنتجعات السياحيةالبحرية التي من أجل بلوغ وهم السعادة, يفرض فيها على الزبائن التخلي عن أسمائهمخلال فترة الإقامة, فتطلق عليهم أسماء بعض المحارات البحرية أو الآلهة اليونانيةوأحياناً أرقام لا غير. أيّ قصاص أن تحملي اسمك قيداً مدى العمر!
أحسد سكان بلادعربية يعيش فيها الناس بلا أسماء. لاعبو الكرة يستدلّ عليهم بأرقامهم, النوّابيحملون أسماء مناطقهم, المسؤولون يحملون أسماء وظائفهم, المطربون لا يغّنون إلا فيجوقة, الأموات لهم مقبرة جماعية يضع عليها الزوّار الرسميون إكليلاً للجميع. إنهمفي منتجع التاريخ, اختزلوا أسماءهم جميعاً في اسم رجل واحد وارتاحوا. الحكم عمليةاختزال. ثمّة نعمة في أن تكون “لا أحد”. لا تتوفر لك, إلا عندما يأتي حاكم ويؤمم كلالأسماء, أو يأتي الموت ويبعثرك في كل شيء.

كان زوربا بدأ ينتفض رقصاً. وكنتأفكّر في بورخيس عندما يقول في نهاية كتابه ” الخلد” ” كنت هوميروس وقريباً أصير لاأحد, كما عوليس قريباً أصبح العالم كله, لأنني أكون قد متّ“.
قرَّرت أن أضعذراعي على كتف زيان ونبدأ الرقص سوياً, فزوربا رقصة تصبح أجمل عندما يؤديها رجلانبعنفوان الخاسرين.. فاتحين ذراعيهما لاحتضان العدم.

هيا زيان, انتهى الآن كلشيء فارقص. عندما ترقص , كما عندما تموت, تصبح سيد العالم. ارقص كي تسخر منالمقابر.
أما كنت تريد أن تكتب كتاباً من أجلها؟ ارقص لأكتبه عنك.
تدبّررجلين لرقصتك الأخيرة, وتعال من دون حذاء.
في الرقص كما في الموت لا نحتاج إلىأحذية!

 

 

الفصل الثامن

الموت يضع ترتيباً فيالقرابات.
برغم تلك العشرة, تعود فرانسواز غريبة, فموعدها الأخير مع زيان تمّ فيالمستشفى. بعدها أقلّتني إلى المطار بسيارتها, ودّعتني بمودّة لم تكن يوماً حباً, ومضت لأصبح, أنا الموجود في حياته مصادفة, كلّ أهله.
عرضت علي أن تحضر مراسم رفعالجثمان, لكنني بذرائع دينية كاذبة, أقنعتها بعدم الحضور. كنت أتوقع حضور حياة صحبةناصر, وكنت أريد لجمالية ذلك المشهد التراجيدي ألا يفسده أحد علينا.

عندماانتهيت من تسجيل حقيبتي الصغيرة, بعد وقوفي طويلاً في طوابير الأحياء المتدافعينوالمحمّلين بكل أنواع الحمولات وأغربها, من حرامات وطاولات كيّ وأحواض للورد وطناجروسجاد وحقائب بؤس من كل الأحجام, عائدين بها كغنائم غربة إلى الوطن, ذهبت إلى حيثلا طوابير بشرية تزاحمني وحيث كل شيء سقط متاع, مذ أصبح فيها البشر هم الأمتعة والحمولة التي تسافر مختومة ومرقمة مع البضائع في جوف الطائرة.
وقفت في تلكالقاعة المخصصة لإيداع ما هو جاهز للشحن إلى كل الوجهات. في جهة منها كانت تتكدسالصناديق الضخمة التي تنقلها الآلات نحو الطائرات, ويهرع عمال بثيابهم الزرقوقبعاتهم الصفر لجرها في عربات مكشوفة, مما كان يحدث أحياناً أصواتاً قوية, ويتركجانباً من القاعة مفتوحاً لمجرى هواء جليدي. أحدهم نبَّهني أن أقصد الجهة الأخرى منالقاعة, فقصدتها أنتظره.

ثمّ جاء..
هاهم يأتون به, غرباء يحملونه علىأكتافهم, حلماً في تابوت من خشب, مكلَّلاً بكبرياء الخاسرين يجيء, له جنازة تليقبسخريته, أكاد أصيح بهم ” لا تسرعوا بنعشه فتتعثرون بضحكته”. هو المتئد المتمهل, لاتستعجلوه. هو الواثق كالتأمل, انصتوا لتهكمه وهو يعبر لوحته الأخيرة, يجتاز قدره منضفة إلى أخرى, كما يجتاز جسراً, محمولاً من أناسٍ لا يدرون كم رسم هذاالممر.

وهو يبني جسراً. لا همّ للمهندسين إلا العبور الأمين, أما العبورالجميل, فيهندس جماله أو بشاعته مهندس أكبر, يملك وحده حقّ هندسة خطى القدر.
ياإله الجسور, يا إله العبور الأخير, لا توقظه. عاش عمره على سفر, حقّ له أنيستريح.
يا إلهة الأسرة, عابر سرير هو حيثما حلّ, فأهده راحة سريره الضيقالأخير.
وأنت يا إله الأبواب, لا قبور آمنة في انتظاره, فلا تدعهم يخلعون بابنومه.
في حضرته, اكتشفت أنني فقدت القدرة على البكاء, ولم يبق لي أمام الحزن إلاذلك الأنين الأخرس للحيتان في عتمة المحيطات.
كان أمام الموت يفعل ما كان يفعلهدائماً أمام الحياة: التهكم!
وعندما لم أجد في العين دمعاً يليق بسخريته, رحتأشاطره الابتسام.

فجأة لمحتها, كانت رفقة ناصر, جاءت. إذن جاءت. هي, أكانتهي؟ تلك المرأة القادمة بخطىً بطيئة يلفّ شعرها شال من الموسلين الأسود, مرتديةمعطف فرو طويل, برغم البرد القارس, ما أحببت ترف حدادها الفاخر.
قبل أن تقترب, فكَّرت أن معطفها يساوي أكثر من ثمن تلك اللوحة, كان يكفي أن تستغني عنه ليشعر خالدالآن ببرد أقلّ.
كان يكفيها معطف داكن ووردة حمراء, لتصبح “نجمة” فهل ليس فيخزانتها معطف بسيط يليق بفاجعة كبيرة؟
أقنعت نفسي بأنها لم تكن هي. حتماً كانتنجمة”, تلك الغريبة الجميلة الهاربة من القصائد والواقعة في قبضة التاريخ. مثلهاكان لها كل وجوه النساء ولها كل الأسماء, إلا أنها اليوم خلعت ملايتها السوداء التيارتدتها حداداً على صالح باي, وارتدت معطف فرو اقتناه لها أحد قطّاع طرقالتاريخ.
من يحاسب زوجة قرصان إن هي ارتدت شيئاً من غنائمه؟

كانت تتقدمببطء لا يشبه خطوتها, ألأن قدميها المخضبتين بالحناء تعبتا؟
منذ زفافها وهي تمشيكي تبلغ هذا الجثمان.
عرَّفني ناصر بأخته. كان أولى أن أعرفه بها. مدَّت يدهانحوي. المرأة ذات معطف الفرو, لم تقل شيئاً, عساها تخفي تردد أكفنا وارتباكها لحظةمصافحة.
ليس من أجل ناصر. بل من أجله هو, تحاشينا أن تطول بيننا النظرات. لم نكننريد أن نشهده ميتاً على ما كان يعلمه حياً.
في حضرته, كنّا نتبرَّأ من ذاكرتناالعشقية, مستخفِّين بذكاء الموتى.
ضمَّني ناصر طويلاً إلى صدره. التصقت دمعة علىخدِّه بخدي. قال كلمات في بياض الكوما, وبكى. بدا لي كأنه شاخ, كأنه هو أيضاً ماعاد هو, كأنه أصبح الطاهر عبد المولى. كانت هكذا ملامح أبيه كما خلَّدتها صورالثورة.

ناصر الذي رفض أن يحضر زفافها, يوم كان في قسنطينة, أيّ قدر عجيبجاء به من ألمانيا, ليحضر جنازة خالد هنا في باريس! أكان لقاؤنا حوله آخر رغبة أرادأن يخطفها من الفكّ الساخر للموت؟
موتاً مكثفاً في دقّته, مباغتاً في توقيته, ذكيَّا في انتقاء شهوده, حتى لكأنه وصية.
أشك أننا كنا جميعنا هناك في ذلكالمكان مصادفة. في المصادفة شيء من الفوضى لا يتقنها الموت.
لا يوجد سوء ترقيم, ولا سوء تدبير في هذا العالم الجائر. يوجد ما يسميه رنيه شار في إحدى قصائده ” فوضىالدقة”. إنه الموت المشاغب الجبار, كما في تراجيديا إغريقية.
أيّ مأساة أن تخلفشيئاً على هذا القدر من الفاجعة! أيّ ملهاة أن تكون شاهداً عليه!
واقفين كناأمام أسطورة رجل عاديّ, بأحلام ذات أقدار ملحمية.
رجل يدعى خالد بن طوبال. فمنذاجتمعنا حوله استعاد اسمه الأول, وبهذا الاسم يعود إلى قسنطينة. الموت غيَّر اسمهوكشف أسماءنا.
أذكر يوم سألني بتهكم ذكيّ:
خالد.. أما زلت خالد؟
مثلهأكاد أسأل المرأة ذات المعطف الفرو:
حياة.. أما زلت حياة؟
ذلك أنها مذ دخلتهذا المكان أصبحت ” نجمة“.
نجمة المرأة المعشوقة, المشتهاة, المقدسة, المرأةالجرح, الفاجعة, الظالمة المظلومة, المغتصبة, المتوحشة, الوفية الخائنة. ” العذراءبعد كل اغتصاب”, ” ابنة النسر الأبيض والأسود” التي ” يقتتل الجميع بسببها ولكنهملا يجتمعون إلا حولها“.
هي الزوجة التي تحمل اسم عدوك. البنت التي لم تنجبها. الأم التي تخلت عنك. هي المرأة التي ولد حبها متداخلاً مع الوطن, متزامناً معفجائعه, حتى لكأنها ما كانت يوماً سوى الجزائر.

ذلك أن قصة ” نجمة” في بعدهاالأسطوري, كأحد أشهر قصص الحب الجزائري, ولدت إثر مظاهرات 8 مايو 1945 التي دفعتفيها قسنطينة والمدن المحيطة بها أكثر من ثلاثين ألف قتيل في أول مظاهرة جزائريةتطالب بالحرية.
كان كاتب ياسين يومها في عامه السابع عشر, يقاد مع الآلاف إلىالسجن, وكان في طريقه إلى معتقله الأول يرى شباباً مكبَّلين تجرهم شاحنات إلىعناوين مجهولة, وآخرين يعدمون في الطريق بالرصاص.
وفي الزنزانة الكبيرة التيضاقت بأسراها, كان العسكر يأتون كلّ مرة لاصطحاب رجال لن يراهم أحد بعد ذلكأبداً.
عندما غادر كاتب ياسين السجن بعد أشهر لم يجد بيتاً ليأويه. كانت أمه قدجُنَّت ظنّاً منها أنه قُتل, وأُدخلت إلى مستشفى الأمراض العقلية. قصد الشاب بيتخالَيْه المدرِّسَين فوجد أنهما قُتِلا,ذهب إلى بيت جدِّه القاضي فوجد أنهماغتالوه,غير أنّ الطامّة كانت عندما علم أنهم في غيابه زوَّجوا ابنة عمّه التي كانيحبّها.
في لحظة سهو, اغتصبت تلك المعشوقة التي لن يشفى من حبِّها أبداً, عمراًمن الهذيان أصبحت فيه ” نجمة” كل النساء. فكلما سقط الحجاب عن امرأة في مسرحياتكاتب ياسين تظهر ” نجمة” من تحت كل الملايات ومن تحت كل الأسماء.
ألم يقل في آخرعيد ميلاد له وبعد وفاة أمّه عن عمر إلتهم فيه الجنون الصامت 36 سنة من حياتها: ” ولدت في 8 مايو 45 وقتلت هناك مع الجثث الحقيقية بجوار أمي التي انتهى بها الأمر فيمصحِّ المجانين, ثم ولدت من جديد مع ” نجمة”, أحبها ذلك الحب الأول, الحب الموجع فياستحالته, سعيد بحزني بها, أكتبها, لم أكتب سواها, كمجنون“.

هو الكاتبالمسرحي, لم يتوقع أن تلك المرأة التي أحبها منذ خمسين سنة, وما عاد يعرف ملامحشيخوختها, ستأتي لتحضر العرض الوحيد والأخير لمشهد موته, في مسرحية حياة بدأ فصلهاالأول منذ نصف قرن يوم رآها.
فما كان ليصدق أن النص الأخير لأيّ مسرحيّ, يرتجلهالقدر, ووحده الموت يوزع فيه الأدوار على الناس بين متفرجين وممثلين, لا دقّاتثلاثاً تسبق رفع الستار, فالقدر لا ينبهك عندما يحين دورك ببدء المسرحية, لا في أيةجهة من المسرح ستكون, ولا من سيكون الحضور يومها.

وهي, هي الباكية الآنباستحياء, المحتمية من الذاكرة بفروها, عندما زارت زيان في المستشفى وأهدته ذلكالكتاب, أكانت تدري أنها تهديه قدره, وتطلعه عليه كنبوءة؟
وعندما كتبت علىالصفحة الأولى ” أحببت هذا الكتاب, حتماً سيعجبك” ماذا كان في كتاب ” توأما نجمةما تريد إطلاعه عليه, غير ذلك الموت الغرائبي لصديقه ياسين, وما كانت هي الروائيةلتتوقع أنها مثل ” نجمة” ستجد نفسها مصادفة تحضر المشهد الأخير لموت رجل عشقهاورسمها كمجنون, فسلَّمته للغربة والشيخوخة والمرض.
لم تفارقني فكرة تطابقالموقفين. مثل ” نجمة”, ما كان يمكن لحياة أن تحضر جنازة خالد لولا وجود أخيها. الفرق أنّ ناصر يقف هنا مع المشاهدين, بينما كان أخو نجمة مسجىً جوار حبيبها, فيقاعة ترانزيت الأموات كهذه!

في ذلك الموت العجيب ” الممسرح” لكاتب ياسينوابن عمّه مصطفى كاتب, شيء يتجاوز الخيال المسرحي نفسه. يزيد من غرابته أن الرجلينكانا رجلي مسرح. كان مصطفى كاتب الذي عرفته شخصياً مديراً للمسرح الوطني فيالسبعينات قبل أن يفتك به الداء. بينما كان كاتب ياسين يتزعَّم المسرح المعارضويقدِّم عروضه بالعامِّية والأمازيغية في التجمعات العمّالية.
وإذا كان ياسيننحيلاً وعصبياً ويعرف جغرافية السجون والمعتقلات, ومن بعدها عناوين المصحّاتالعقلية والخانات, كان مصطفى كاتب تقيَّا ورصيناً ووسيماً وسامة أرستقراطيةقسنطينية, زاده شعره الفضّي وابتسامته الهادئة تميّزاً.

وكانا بحكم اختلافمعتقداتهما ومزاجهما منقطعين عن بعضهما إنقطاعاً كأنه قطيعة. كلٌّ يدور في مجرته, حتى ذلك اليوم الذي جاء بهما الموت كلّ من مدينة ووضعهما متجاورين في قاعة كهذه فيمطار مرسيليا قبل سفرهما الأخير إلى الجزائر.
لم يكن الممثلون هذه المرة علىالمنصة. كانوا في التوابيت. والذي كان يدير الممثلين في هذا المشهد الأخير كان خارجالمسرح, فالفضاء المسرحي كان أكبر من أن يقدر على إدارته البشر. وهذه المرّة لم يكنمن تنافس بين الممثلين, فالنجم الأوحد في مسرحية الموت, هو الموت, ولأنه لا مكانللتصفيق, لن ينهض الممثلان لتحية الجمهور قبل انسحابهما الأخير.
أليس القدر هوالذي جعل كاتب ياسين يموت في مدينة غرونوبل ( جنوب فرنسا) يوم 28 أكتوبر 1989 , وابن عمِّه مصطفى كاتب يموت بعده بيوم واحد في 29 أكتوبر في مرسيليا. حتى إن إحدىالجرائد عنونت الخبر ” كاتب + كاتب = مكتوب“.
هكذا جيء بجثمان كاتب ياسين إلىمطار مرسيليا ليتم نقله على الطائرة نفسها مع مصطفى كاتب.

يحكي بن عمارمديان في ذلك الكتاب كيف أنه وجد نفسه وهو الصديق الأقرب إلى كاتب ياسين والمرافقلجثمانه, شاهداً ومشاهداً ذلك الحدث العجيب الذي تحَّولت خلاله قاعة ترانزيتالبضائع وتوابيت الموتى في مطار مرسيليا, إلى خشبة لا حدود لها ولا ستائر, كلّ شيءفيها حقيقيّ, وكلّ شيء شبيه بمسرح إغريقي.
شاهد فجأة امرأة تتقدّم بخطىً بطيئةداخل معطف غامق طويل, حاملة في يدها المختفية في قفَاز أسود, وردة ذات ساقطويل.
كان وجهها يختفي خلف نظارات سود, وقبّة المعطف التي كانت ترفعها, تخفيالكثير من ملامحها.
تقدَّمت المرأة نحو النعشين, وراحت تقرأ الاسم المكتوب علىكلّ منهما. توقّفت عند التابوت الذي كان ينام داخله مصطفى, انحنت وقبَّلت طرفالنعش, ثمّ, بدون أن تخلع قفّازيها, مرَّرت يدها على نعش ياسين في ملامسة سريعةللخشب. بقيت بعض الوقت ممسكة بتلك الوردة, ثم وضعتها على نعش أخيها مصطفى, وابتعدت.
كانت.. ” نجمة“!
كأبطال الروايات والمسرحيات الذين يغادرون نصوصهم, ويأتون لوداع المؤلف, جاءت ” نجمة”, لكنها لم تكن هناك لوداع الكاتب الذي حوَّلهاأسطورة, وإلى رمز لوطن. الشاعر الذي صنع من وجهها ألف وجه, ومن اسمها اسماً لكلّالنساء, وأدخل قصّتها في روائع الأدب العالمي.
جاءت لوداع أخيها. هي زليخة كاتب, في عامها السبعين, قد تكون نسيت منذ ذلك الزمن البعيد أنها” نجمة”, فهي كانت تعيشباسمين, واحد للحياة والآخر للأسطورة. ولذا ما توقعت أن تقوم الحياة نفسها بتذكيرهاأمام جثمان ياسين, أنها برغم شيخوختها, مازالت ” نجمة”.. فوحدها الأساطير لاتشيخ!

يا للحياة عندما تبدأ في تقليد المسرح حيناً, والأدب حيناً, حتى تجعلكلفرط غرائبيتها تبدو كاذباً.
من يصدق شيئاً غريباً عن امرأة كزهرة توليب سوداء, تدعى تارة حياة وتارة ” نجمة”. تأتي دائماً في آخر لحظة, في آخر مشهد, لتقف أمامنعش رجل توقف عن الهذيان بها لفرط ما انتظرها.
امرأة كأنها وطن, لا تكلِّف نفسهاسوى جهد تمرير يدها بالقفاز على تابوتك, أو وضع وردة على نعشك في أحسنالحالات.
كم مرّة يجب أن تموت لتستحقّ دفء صدرها!
كنت أفكر في الكاتبالصوماليّ نور الدين فرح مبرِّراً هجرته المعاكسة من أوربا إلى أفريقيا قائلاً:” إني بحاجة ماسّة إلى الدفء, إلى هذا تحتاج الجثة”. وأكاد أخلع عن تلك المرأة معطفهالأغطي به نعش خالد, في رحلة عودته إلى صقيع الوطن. أكاد أصرخ بها, لا تكونينجمة”, استبقيه بقبلة, استبقيه بدمع أكثر, قولي إنك أحببته, انفضحي به قليلاً. هلأجمل من فضيحة الموت للعشّاق؟

ضعي يدك عليه, يدك التي تقتل, يدك التي تكتب, مرِّريها عند أعلى التابوت, كما لو كنت تدلّكين كتفه, هناك حيث مكمن يتمه.
لاتخافي عليه من فضيحة جميلة. لم يعد يخشى أحداً, ولا عاد معرّضاً إلى شيء. إنه معروضلفضول الأشياء. عيناه المغمضتان تحفظان السرّ, وقفصه الصدريّ الذي كنت عصفورته, موحش وبارد مذ غادرته , فغطيّه.
أيتها المتردِّدة ذعراً, إرمي بنفسك فوق هذاالصندوق الخشبيّ الذي يضمه كما كنت ترتمين طفلة صغيرة على حجره,يوم كان يلاعبك, يضمك إليه بذراع واحدة, يستبقيك ملتصقة إلى صدره.
هوذا ممدد أمامك.. من لك بعده؟من كان لك سواه؟ إلثمي صندوقه.. إلثميه. سيعرف ذلك حتماً. لا تصدّقي أنّ الخشب غيرموصل للحرارة,الموت لا يعترف بنظريات الكيمياء.
غافلي الأحياء, واختبري تلكالرغبات الأخيرة التي نسرقها من فوق جثة الموت, تلك القُبَل التي توقظالجثث.
أنا الذي أعرف تماماً جغرافيتها, أعرف منطقتها البركانية, وتلك الزئبقية, وتلك الناريّة, كنت أكتشف مساحتها الجليدية, وتضاريس حزنها المدروس كي لا يتجاوزحدّه.
امتلكني يقين النهاية, وأنا أراها في حزنها الرصين ذاك.
أدركت أمامجليدها أنها هكذا ستواجه جثماني إن أنا متّ!

عندما انتهينا من قراءة فاتحةعلى روحه, ابتعدنا ثلاثتنا نحو ركن قصيّ من الصالة. اغتنمت الفرصة لأمدها بكيس فيهدفاتر صغيرة سجّل عليها زيان أفكاراً مبعثرة على مدى سنوات, وأوراق أخرى كان يحتفظبها في ظرف, أظنها كانت لزياد, نظراً لصيغتها الشعرية المتقنة, ولاختلاف خطّها عنخطّ زيان.
وضعت أيضاً في الكيس كتابيها, بدون إهداء, كما احتفظ بهما زيانلسنوات, واضعاً سطوراً على بعض الجمل. ولم أنس طبعاً كتاب ” توأما نجمة” كما أهدتهإياه قبل أيّام في آخر زيارة لها.
هكذا أكون قسَّمت تركة خالد بين امرأتين, واثقاً بأن واحدة ستسارع بإلقاء معظمها في الزبالة, ولن تحتفظ سوى باللوحات لقيمتهاالماديّة, وأخرى وقد فقدت اللوحات.. ستصنع من خسارتها كتاباً.
لم أحتفظ لنفسيسوى بساعته, غير واعٍ أنني سأقع في فخّ تلك الساعة في ما بعد , فكيف يمكن مقاربةالحياة انطلاقاً من الموت, لكأنّ عقارب الوقت التي وهبت سمّها لعقارب ساعتك, تدورضدّك, وفي كلّ دورة تستعجلك الفناء.
قلت كما لأبرر لناصر مدِّي أخته بذلكالكيس:
إنها بعض أوراق وكتابات تركها زيان, قد تستفيد منها السيدة حياة إنشاءت أن تكتب شيئاً عنه.
لا تهتم ستتكفَّل الصحافة بعد الآن بتكفينه بورقالجرائد.
لم تفتح الكيس, ولا حاولت أن تلقي نظرة على محتوياته. حتماً لم تتوقّعموقفاً عجيباً كهذا, لكنّها توجهت إليَّ لأول مرة وسألتني:
بالنسبة للوحاته, ماذا فعلتم بها؟
قلت:
أظنها بيعت في معظمها.
قال ناصر:
عندماأخبرتني بموته, أول فكرة خطرت ببالي بعد المكالمة, تلك اللوحة التي حكيت لي أناومراد كيف أقنعته أن يبيعك إياها. في البدء ظننتك مجنوناً لأنك دفعت فيها كل ماتملك, ثم بعد ذلك فكرت أن ثمة أشياء لا تعوّض ويجب على المرء أن لا يفكّر في الثمنعندما تعرض عليه.
سألت بفضول:
عن أية لوحة تتحدثان؟
وقبل أن أرد أجابناصر:
عن لوحة رسمها سي زيان في بداياته وكانت تعزّ عليه كثيراً.
إنهاتمثّل جسر سيدي مسيد.
قالت بتهذيب يضع بيننا مسافة للبراءة الكاذبة:
أتمنىأن أراها. أيمكنك أن تترك لي هاتفاً أو عنواناً أكاتبك عليه إن احتجت شيئاً في مايخص أعمال زيان؟
كانت هذه آخر حيلة عثرت عليها لتطلب عنواني في حضرة أخيها , فهيتعرف عاداتي في الاختفاء المفاجئ من حياتها.
أجبتها بطريقة تفهم منها أنني لمأتغيَّر:
آسف , فليس لي عنوان ثابت بعد- مضيفاً بعد شيء من الصمت- ثم إننيبعت تلك اللوحة!
صرخ الاثنان بتعجب:
بعتها؟ وعلاش؟
وعلاش؟
لم يكنالمكان مناسباً لأشرح لهما ” لماذا” بعتها. فقد يكون زيان يسترق السمع إلينا, وفاجعة واحدة تكفيه. ذلك أن السؤال سيتوالد ويصبح ” كيفاش؟” و ” بقداش؟” ولشكون؟
وبكم ليست شيئاً قياساً بلمن, فعندها سأصبح خائناً باع الجزائر والأمةالعربية جميعها للغرب, وبسببي سقطت غرناطة وضاعت القدس, فحتماً ثمة مؤامرة حيكت ضدالأمة العربية, دبرها الرواق بالاشتراك مع المستشفى, خاصة أن معظم الأطباء هم مناليهود. وهل ما يحدث لنا منذ قرون خارج المؤامرة؟
كانا مازالا مذهولين ينتظرانمني جواباً, ولم أجد شيئاً لأجيب به عن سؤالهما ” وعلاش؟”. فأحياناً يلزمك كتابةكتاب من هذا الحجم لتجيب عن سؤال من كلمة واحدة :” لماذا؟
هل صدمها حقاً فقدانتلك اللوحة.. فأفقدتها الفاجعة صوتها!

أظنها كانت ستقول شيئاً, عندما علاصوت المضيفة على الميكروفون يطالب المسافرين إلى قسنطينة على متن الخطوط الجزائرية, الرحلة رقم 701, بالالتحاق بالبوابة رقم 43.
بدت كأنها وجدت في ذلك النداءذريعةً للتأهب لمغادرة المكان, فما عاد ثمة ما يقال.
حضرني قول مالك حداد: ” فيمحطات السفر والمطارات, مكبرات الصوت تقول” على السادة المسافرين التوجه إلى…” ذلك أن السيدات لا يغادرن أبداً“.
فعلى أيامه كانت النساء ممنوعات من السفر, قابعات في البيوت. أما اليوم, فلا وقت لهن لمرافقة حبيبٍ يسافر في تابوت.
ضمّنيناصر إلى صدره وقال:
ربي يعظّم أجرك, ويحميك. لو كنت نقدر ندخل للجزائر واللهنروح معالك.. لكن هاك على بالك.
ثم وقف أمام الجثمان لحظات متمتماً بكلمات كأنهادعاء. لمحته يمسح دموعاً دون أن يرفع يده اليمنى عن النعش.

هل أيقظ دعاءناصر شيئاً فيها؟ هل ذكَّرها نداء الميكروفون أنني أنا وهذا المسجّى مسافران معاً, وأنها فقدتنا نحن الاثنين؟
مدت يدها نحوي موّدعة. رأيتها لأول مرة أمام جثمانهمجهشةً بالبكاء.
كنت أحتقر تعاسة الذين لا يجرؤون على الاقتراب من السعادةالشاهقة, الباهظة, التي لا تملك للسطو عليها إلا لحظة, فالحبّ الكبير يختبر في لحظةضياعه القصوى.
تلك اللحظة التي تصنع مفخرة كبار العشّاق الذين يأتون عندما نيأسمن مجيئهم, ويخطفون سائق سيارة ليلحقوا بطائرة ويشتروا آخر مكان في رحلة, ليحجزواللمصادفة مقعداً جوار مَن يحبّون.
الرائعون الذين يخطفون قدرك بالسرعة التي سطوابها ذات يوم على قطار عمرك.
كنت أريد حباً يأتي دقائق قبل إقلاع الطائرة فيغِّيرمسار رحلتي, أو يحجز له مكاناً جواري. لكنها تركتني معه.. ومضت.
لم تقل شيئاً. فقط بكت. وخالد ظلَّ يكفنه البرد بيننا. استطعت أن أؤمن له ثمن تذكرة, وما استطعتأن أتدبَّر له معطفاً.

كان الميكروفون يكرر النداء. إنه وعي الفراق, ولامناديل للوداعات الكبيرة.
وحدي كنت معه, عندما جاؤوا لنقله. حملوه ليقبع هناكشخصاً بين الأمتعة. أمّا أنا فولجت الطائرة متاعاً بين الركاب.
افترقنا هناك, برغم أننا كنا نأخذ الطائرة نفسها أنا وهو.
ذهب آخر رفاق الريح, وبقيت مرتعداً, لا أدري كيف أوصد الباب خلف رجل عاش كما مات في مهب التاريخ, واقفاً فوق جسر. في كلغربة, كأسماك الصومون, تبحث عن مجرى مائي يعيدك من حيث جئت, سالكاً جسراً للوصول. لكن, ليس بسبب النهر وُجد الجسر, إنه كالمواطنة, لم تبتدع إلا بسبب خديعة اسمهاالوطن.
فنم نومة لوحة, ما عاد جسرك جسراً يا صاحبي.

***

 

 

استعادت المطارات دورها المعتاد.
في كل مطار ينتصر الفراق, وتنفرط مسبحة العشاق.
مطارات تنادي عليك في استرسال محموم, مرددة رقم رحلتك, تلك التي تكفّل القدر بنفسه بحجزها لك, في مكتب السفريات الذي اختصاصه رحلتك الأخيرة.
ما جدوى كل هذه النداءات الملحاحة إذن لتذكيرك بوجهتك, وكل هذه الإشارات المضيئة لتوجيهك نحو بوابتك, أيها المسافر وحيداً, في صندوق محكم الإغلاق, لا تذكرة في جيبك, وكل الممرات توصل حيث أنت ذاهب.
يا رجل الضفّتين, مسافة جسر وتصل. إنها ساعتان ونصف فقط, وتستقر في حفرتك, على مرمى قدر, لك قبر في ضيق وطن.
تجلس على مقعدك, وتدري أن تحتك ينام الرجل الذي كان توأمك, محتمٍ بصمته من إهانة الحقائب والصناديق التي ألقي بينها.
ما عاد الرجل الذي كان, ولا الرسام الذي كان. إنه صندوق في حمولة طائرة.
ليس الصندوق الذي يفرِّق بينكما, إنما كونه أصبح يقيم منذ الآن في العالم السفلي, بينما ما زلت أنت تجلس وتمشي وتروح وتجيء فوقه. لك ذلك الحضور المتعالي للحياة.
لو يحدث أن عرفت موقفاً غريباً كهذا. السفر مع جثمان ميت, حجزت له بنفسي تذكرة معي, أو بالأحرى حجزت لنفسي تذكرة معه.

أستعيد كتاب ” توأما نجمة” وصاحبه الذي يروي كيف وجد نفسه لمصادفة غريبة, المرافق لجثمانيْ كاتب ياسين ومصطفى كاتب من مرسيليا إلى الجزائر. وأجد عزائي في احتمال أن يكون قد عرف ألماً مضاعفاً لألمي ما دام سافر مع جثمانين.
ثم تقودني الأفكار إلى تلك الأخبار التي نقلتها الصحف في الثمانينات عن طائرات بلد عربي مخصصة لنقل البضائع, حوّلتها الضرورة إلى طائرات للنعوش, وراحت لأسابيع تنقل في رحلات مكّوكيّة أحلام آلاف المصريين الذين قصدوا ذلك البلد للعمل بنوايا وحدوية, وعادوا منه مشوّهين في صناديق محكمة الإقفال, أغلقت على أحلامهم المتواضعة التي تم التنكيل بها, عندما أعلن رسمياً في ليلة ظلماء وفي خضم الإحتفالات بعودة الجنود الأبطال من حربهم ضد الجيران, فتح موسم إصطياد الغرباء الذين اتّهموا بإنتهاك شرف النساء.. أثناء انشغال أبناء الوطن بالدفاع عن الأمة العربية.
إنه الموت العربي بالجملة وبالتجزئة. الموت مفرداً ومثنى وجمعاً, الذي لا تدري أمامه هل أكثر ألماً أن تسافر في طائرة لا يدري ركابها, وهم يطاردون المضيفة بصغائر الطلبات, أن تحتهم رجلاً ميتاً, أم أن تكون قائد طائرة عربية لا مضيفات فيها ولا خدمات, لأن جميع ركابها أموات؟!

يذكرني الموقف بصديق ينتمي إلى إحدى ” الممالك” العربية, سأله أحدهم مرة:” من أين أنت؟” أجاب ساخراً :” من المهلكة”, فردَّ عليه الثاني مزايداً:” وأنا من أمّ المهالك”, وضحك الاثنان على النكتة. فقد تعرَّف كلاهما على بلد الآخر, دون أن يتّفقا على أيّ منهما كان أكثر هلاكاً من الآخر!
هالك يا ولدي.. مهلوك. وفي هذا المطار بإمكانك أن تختبر حجم الأذى الذي ألحقه القتلة بجوازك الأخضر.
ذهب عنفوانك. مثير للريبة حيث حللت, تفضحك هيئتك, وسمرتك, وطابور المتدافعين, والكلاب المتدربة على شمشمة أمثالك.
مذ قام الإرهابيون باختطاف طائرة فرنسية وقتل بعض ركابها, والجزائريون يخضعون لحجر أمنيّ في المطار, كما لو أن بهم وباء, وعليك أن تقف أعزل أمام جبروت الأجهزة الكاشفة لكل شيء, والكاميرات الفاضحة لنواياك, والنظرات الثاقبة لأحاسيسك, والإهانات المهذبة التي تطرح عليك في شكل أسئلة.

تستااااااااهل ما الذي جاء بك؟
من ردهة إلى ممر إلى معبر, لست سوى رقم في طوابير الذلّ. فكيف وقد اعتدت المذلة أن تطالب باحترام أكثر على متن ” طائرتك”؟
لا رقم لمقعدك, وعليك أن تدخل في سباق الفوز بكرسيّ, أن تكون لك جسارة تجّار الحقائب في التدافع.
فالكرسيّ, أيّ كرسيّ, لا بدّ من الاقتتال للفوز به. ثمة من أرسلوا أناساً باالآلاف إلى المقابر للجلوس عليه, والانفراد به, وأنت تريد كرسيّاً من دون عناء!
وتريد مكاناً تضع فيه حقيبة يدك, ولكنهم سبقوك واحتلوا كل شيء. الكل محمَّل بالحقائب البائسة المكتظة بالعمر الغالي, والجميع حريص على ما في يده, أكثر من حرصه على نفسه, لا يدري أنْ لا شيء سوى الإنسان سريع العطب.

أتساءل, أين كنت إذن سأضع تلك اللوحة لو كنت أحضرتها معي. فحتى إن قضيت نصف الرحلة في إقناع المضيفة بأهميتها, ماذا كانت تستطيع أن تفعل أكثر مما فعل غيرها في موقف كهذا؟ فأنا لم أنسَ تلك الكاتبة المقيمة في المهجر, التي شاهدتها على التلفزيون الجزائري تحكي, كيف أنها عندما عادت لزيارة الجزائر, ومعها حقيبة صغيرة لا تفارقها, فيها كتاباتها ومخطوط روايتها الجديدة, ما وجدوا في تلك الطائرة الواصلة من سوريا والمليئة برهط غريب من تجّار الأرصفة الذين لا يحتاجون إلى تأشيرة لدخول الشام, أيّ مكان يضعون فيه الحقيبة, فتطَّوع مضيف للتكفّل بها عندما أبلغه بعض من تعرَّف عليها من الركاب, أنها حقيبة كاتبة لم تعد لوطنها منذ سبع سنوات.
في منتصف الرحلة جاء من يخبرها أن حقيبتها كرّمت بوضعها في ” مرحاض الطائرة”. المضيف قال إنه كان شخصياً يقوم بإخراجها وإعادتها إلى مكانها في الحمام, بعد مرور كل راكب, لأنهم أوصوه خيراً بها, ولولا معزّتها واحترامه للأدب لما وضعها في ” بيت الأدب”, ولأصر على إنزالها مع بقية الحقائب إلى جوف الطائرة.. وارتاح!
ماذا تقول لوطن يهينك بنية صادقة في الاحتفاء بك؟

إحدى الصور التي تمنيت لو التقطتها, هي صورة حقيبة الكاتب, مرمية أرضاً في مرحاض الطائرة بعد أربع ساعات من الطيران, بينما تسافر بضائع المهربين الصغار مصونة محفوظة في الخزائن الموجودة فوق رؤوس أصحابها.
لو نشرت صورة كتلك, لجاء من يقول إنني أهين وطني أمام الغرباء, وأعطاني درساً في الوطنية, ذلك أن الوطن وحده يملك حق إهانتك, وحق إسكاتك, وحق قتلك, وحق حبّك على طريقته بكل تشوهاته العاطفية.
كيف حدث هذا؟ وكيف وصلنا إلى شيء على هذا القدر من الغرابة؟
لا تنتظر أن يجيبك أحد هنا. فالجواب ليس في طائرة, إنما في مكان آخر حيث كان إقلاعها الأول.

عليك بعد الآن وإلى آخر عمرك أن تجيب: لماذا حصلت على تلك الجائزة دون غيرك؟ لماذا أخذت تلك الصورة لذلك الطفل وذلك الكلب دون سواهما؟ لماذا بعت تلك اللوحة لذلك الشخص دون سواه؟
أنت مطالب بالإجابة على أسئلة يحتكر غيرك الردّ عليها, من أنت حتى تغيّر مجرى التاريخ أو مجرى نهر لست فيه سوى قشة يجرفها التيار إلى حتمية المصب؟
أنت لا تعرف حتى ماذا تفعل هنا, وكيف أصبحت الوصيّ على هذا الجثمان وأنت مثقل بالوصايا, متعب بنوايا يحرسها القتلة.
تتمنى لو كنت محمد بوضياف عائداً إلى الوطن في طائرة فرحتك لإنقاذ الجزائر, لو أن لا حقائب لك, لو أن يديك ممدودتان لتحية المستقبلين ملوّحتان بتوعد القتلة واللصوص الكبار المهيبين. لكن هو نفسه عاد مرتدياً كفنه, وما فتح ملفّاً إلا وفتح معه قبره.
فاربط حزام الأمان يا رجل, وتابع شروح المضيفة حول أقنعة الأوكسجين, وصدريّة النجاة.

***

اخترت بنفسي العجوز التي ستجلس جواري, أما الفتاة التي جلست على شمالي, فهي التي اختارتني. قد تكون استلطفتني مقارنة بالخيارات الرجالية الأخرى.
فمهمّ في رحلة طويلة كهذه ألا تجد نفسك مربوطاً جوار من سيزيدونك هماً وغماً, فينتابك إحساس من توقف به المصعد, ووجد نفسه محجوزاً مع أناس لا يستلطفهم, وعليه أن يتقاسم معهم حدوده الإقليمية وأجواءه الحميمية المستباحة بحكم المكان.
وكنت بعد عبورنا نقطة التفتيش, قمت بمساعدة تلك العجوز على حمل الكيس الكبير الذي لا أدري كيف حمَّلوها إياه, أو كيف أصرَّت هي على حمله وراحت تتوقف كل حين لتستريح قليلاً من عبئه.

أحبّ عجائزنا, ولا أقاوم رائحة عرق عباءاتهن, لا أقاوم دعواتهن وبركاتهن. لا أقاوم لغتهن المحملة بكمّ من الأمومة, تعطيك في بضع كلمات زادك من الحنان لعمر.. وبعض عمر.
– يعيشك يا وليدي.. ربي يسترك ويهزّ عنك هم الدنيا.. ربي يزيِّن سعدك.
كلمات وأقع في ورطة عاطفية مع عجوز, وإذ بي حمّال وعتّال ومرافق لها, ومسؤول عن إيصالها حتى قسنطينة.
أهي عقدة يتمي؟ دوماً خطفتني العجائز وغيَّرن وجهتي.
فما صادفت واحدة تنوء كهولتها بقفّةٍ, إلا ووجدتني أحمل وزرها عنها مدّعياً أنّ وجهتها تصادف وجهتي. مرة تسبب لي الأمر في صفعة تأديبية من أبي, الذي لم يصدِّق عذر تأخري في العودة من المدرسة.
كانت العجوز ذاهبة صوب رحبة الصوف لبيع أرغفة أعدّتها في البيت, وقضيت ساعة أمشي جوارها حاملاً محفظة المدرسة بيد, وقفّتها بيدي الأخرى.
كانت تلك الصفعة الوحيدة التي تلقّيتها في حياتي من أبي.

كانت العجوز الجالسة جواري تسافر لأول مرّة بمفردها, وجاءت إلى باريس لزيارة ابنتها التي وضعت مولودها الأول. وقبل أن تقلع الطائرة كنت عرفت تقريباً كل شيء عن حياتها.
لا سرّ للعجائز, كلّ الذي ينقصهن هو رجل مشدود الوثاق إلى كرسيّ, له صبر الاستماع إلى خيبات كهولتهن.
كانت مرعوبة من الطائرة, وتريد أن تفهم كل شروحات المضيفة فيما يخصّ صدرية النجاة وقناع الأوكسجين وحزام الأمان ومخارج الطوارئ. ثم تعود من رعبها وتستسلم للمكتوب وتقول إن الأعمار بيد الله, وتواصل ثرثرتها عن صهرها الذي اشترى محلّ قصابة في فرنسا, وابنها الذي يسعى إلى الحصول على أوراق للإقامة في باريس, بعد أن كره العيش في قسنطينة التي كانت ملاذ الفقير فأصبحت مدينة الفقراء. كان المحتاج يقصدها لعلمه بثراء أهلها وكرمهم, وأصبح الآن يقيم فيها مع آلاف الفقراء الذين جاؤوها من كل صوب وأفقروا أهلها.
– منين جاوْ يا ولدي ” جوج وماجوج” هاذُو اللي كلاوْ الدنيا.. وهججونا من البلاد.. يا حسرة راحوا دار شكون وشكون. بقاوْ غير الرعيان. على بالك أنا بنت شكون؟
ولم أكن على استعداد لأعرف هذه العجوز ابنة مَن, ومن أية شجرة تنحدر. فأنا لم أكن هناك لأخطبها, ولكن لا يمكن أن تمنع عجوزاً من التباهي بأصلها, وهو كل ما بقي لها في زمن الذلّ.
كانت من العائلات العريقة في قسنطينة. اشتهر عمها بإنشاء أول شركة لإنتاج التبغ في الجزائر. كان ممن يُضرب بهم المثل وجاهة وغنىً, وأفهم ألا تتقبل فكرة أن تنتهي ابنتها زوجة لرجل اغتنى في الغربة, ولم يغتنِ عن إرث أباً عن جدّ, ولا فكرة أن تتقاسم الطائرة مع ” الرعيان” و “بني عريان”.. ولكن:
– هذي الدنيا يا امّا واش نديرو..

في غمرة اندهاشهم بها, أطلق القدامى على قسنطينة اسم ” المدينة السعيدة”, وهذه العجوز الأميّة كم وفَّرت عليها أمّيّتها من ألم, فهي لن تقرأ يوماً ما قيل في قسنطينة. هي فقط ترى ماآلت إليه. قسنطينة المكابرة لا تدري ماذا تفعل بثراء ماضٍ تمشي في شوارعه حافية.
قسنطينة الفاضلة التي تحرسها الآثام ويحكمها الضجر المتفاقم, وهذيان الأزقة المحمومة المثقلة بالغرائز المعتّقة تحت الملايات.
لم تتغيَّر. ما زال يرعب نساءها الجميلات التعيسات, الشهيّات الشهوانيات, الخوف المزمن من نميمة أناسها الطيِّبين الخبثاء. ولذا, هي تجلس صامتة على يساري, وأنا قدري حيث أذهب أن أقع بين فكيّ حبّها.
عندما, بعد ذلك, مرَّت المضيفة تعرض علينا الجرائد, سمعت الفتاة لأول مرة تنطق لتطلب جريدتي “الوطن” و “الحرية”. لم يبق من نصيبي سوى ” الشعب” و “المجاهد”. تقاسمنا بالتساوي أكاذيب العناوين.
يحضرني دائماً في مثل هذه المواقف, قول ساخر لبرنارد شو معلّقاً على تمثال الحرية في أمريكا ” إن الأمم تصنع تماثيل كبيرة للأشياء التي تفقدها أكثر” وهو ما يفسّر وجود أكبر قوس عربي للنصر في البلد الذي مُني بأكبر الخسائر والدمار.

إمعاناً منّا في تضخيم خسارات ندّعي اكتسابها, نذهب حتى إضافة ما نفتقده إلى أسماء أوطاننا. ولأن الجزائر خرجت إلى الوجود “جمهورية ديمقراطية شعبية”, فقد حسمنا منذ الاستقلال مشاكل الشعب وقضية الديمقراطية, وتفوقنا منذ البدء في ما يخصُّ الحريات على أية دولة أوربية تحمل اسماً من كلمة واحدة!
أمة تحتفي بخساراتها, وتتوارث منذ الأندلس فن تجميل الهزائم والجرائم بالتعايش اللغوي الفاخر معها.
عندما نغتال رئيساً نسمِّي مطاراً باسمه, وعندما نفقد مدينة نسمِّمي باسمها شارعاً, وعندما نخسر وطناً نطلق اسمه على فندق,وعندما نخنق في الشعب صوته, ونسرق من جيبه قوته, نسمّي باسمه جريدة.

انشغلنا بتصفّح الجرائد. لم نتبادل أية كلمة. كانت امرأة غامضة كبيوت نوافذها إلى الداخل, وكان جميلاً الجلوس بمحاذاة أنوثتها المربكة التي توقظ الرواسب العاطفية المتراكمة فيك, وتجعلك تكتشفها من مشربيات النوافذ.
عبرتني فكرة مجنونة: ماذا لو كان الحب يجلس على يساري, أنا الذي لم أقاوم يوماً إغراء امرأة صامتة, ولا جمالية أنوثة تحيط كل شيء فيها بلغز.
عندما جاؤوا بوجبة العشاء, بدا على العجوز حماسة بددت فجأة خوفها من الموت, وأوقفت سيل الأسئلة التي كانت تطاردني بها, عن اهتزاز الطائرة كما تبدّى لها من النافذة. بل إنّها استفادت من فقدان شهيتي للأكل, لاستئذاني في تناول بعض ما في صينيتي.

أثناء ذلك, كانت الغادة القسنطينية التي على يساري تأكل بدون لهفة, كما لو أنها تأكل بحياءٍ مترفّع, كذلك الزمن الذي كانت النساء يختبئن عن الأنظار ليأكلن, وكأن كل متعة لها علاقة بالجسد لا بد أن تمارسها النساء سرّاً, وأن أيّ جوع جسدي لا يليق بامرأة إشهاره.

بعد العشاء, أُخفتت الأضواء, وقامت المضيفة بتوزيع بعض الألحفة على المسنين والأطفال, فطلبت لحافاً للعجوز عسى النوم أن يخدر عضلة الثرثرة بين فكيّها, وتكفّ مع كلّ مطبّ هوائيّ عن التبؤ لنا بكارثة جوّيّة.
مسكينة هي, تعتقد أن لا أخطر من طائرة محلقة في السماء.
لا تدري أن الموت قد يدبِّر لك مقلباً آخر, وينتطرك أرضاً عند سلّم الطائرة, كما حدث مع عبد العزيز, الصيدلاني المعروف في العاصمة بحبه للحياة, وبخدماته الكثيرة للناس. قائد الطائرة كان من معارفه, فقام بنقله للدرجة الأولى وأوصى المضيفات به خمراً, فرحن يسقينه كؤوس الويسكي الواحدة بعد الأخرى, بحيث كان بعد ساعتين من الطيران بين باريس والجزائر غير قادر على الوقوف على رجليه. وما كاد يضع قدميه على أول درج للطائرة حتى تدحرج من سلّمها الحديدي الضيق الذي كان يهتزّ تحت قدميه, وانتهى جسده في الأسفل ليموت بعد يومين إثر نزيف في الدماغ. فلكونه كان من ركاب الدرجة الأولى, وأول من نزل السلم لم يكن أحد ليسبقه ويحول دون تدحرجه حتى الموت!
فهل كان قائد الطائرة يدري أنه بتغيير درجته من الثانية إلى الأولى, كان يتمادى في تدليله حدّ إيصاله إلى مرتبة ” شهيد” من الدرجة الأولى؟

في الطائرة, كما في الحياة, عليك أن تحترم قانون المراتب, ولا تتحايل لتقفز مرتبة, فرّبما كان في ذلك المكسب هلاكك. عليك أن تعرف منذ البدء أين يوجد مكانك, في الأولى أم في الثانية. فأيّ تحايل قد يحيلك إلى أسفل.. مع الحقائب!
عليك أيضاً أن تتأكد أين يوجد مقعدك: على يمين أم على شمال الحب, فالمأساة تبدأ عندما يتسلى القدر بفوضى ترقيم المقاعد.

كنت دائم التنبه إلى الفتاة الجالسة جواري, إلى عطرها الخفيف, وإلى تلك الرغبات الصامتة التي تولد في العتمة. يكفي شيء من الضوء الخافت, لتستيقظ الحواس وتصبح النساء أجمل مما هنّ عليه.
قليل من العتمة يوقظ الوهم الجميل فينا, أمّا حلكة التعتيم, فتساوينا بسكان العالم السفلي.
لم أستطع أن أغفو. ابتسامة بكعب عالٍ, تجاملك من فوق أنوثتها, وتحتك..آه تحتك ثمة ما يمنعك من الابتسام, أنت الجالس بين التقاطع المربع للحياة والموت.

فجأة أشعلت المضيفة الأضواء, وباشرت بتوزيع بطاقات النزول, بينما مرَّت أخرى لجمع الألحفة من الركاب.
لاحظت أن العجوز لم تسلِّم لحافها إلى المضيفة, لمحتها تطويه وتخفيه في كيسها. خوفها من الموت لم يمنعها من السطو على تفاهات الحياة.
إنها كأولئك الذين تنجو طائرتهم من كارثة جوية, أو ينجون من حريق شبَّ في بيتهم, وبعد أن يكونوا عرفوا كل أنواع الويلات, ما يكادون يعودون للحياة حتى يباشرون البحث عن أمتعتهم والتحسر على ما لحق بها من تلف.
هي تأخذه لا لحاجتها, بل لمجرد ” نتف” شركة الطيران. فالذين ينهبون الوطن فوق بالملايين, أعطوا للبسطاء حق سرقة الأشياء الصغيرة أو إتلافها, مساهمة منهم بالتنكيل بوطن حماته لصوصه.

فيمَ قد ينفعها هذا اللحاف الصغير؟ ذلك النائم تحت في المكان الأكثر برداً في الطائرة, أحوج منها إليه.
أكانت ستفقد شهيتها للأكل, لو أنا أخبرتها بوجوده؟ هل كانت ستتفرَّغ للدعاء والصلوات وتقلع عن سرقة الألحفة, لو أنها علمت أن لا شيء يفصلها عن الموت, وأنها في أيّة لحظة قد تنتقل للإقامة تحت؟
من عادة الجالسين فوق, أن يرفضوا التفكير في أنّ في كل موقع يمرون به, ثمة طابق سفلي يتربص بهم.
سألتني العجوز:
= واش آوليدي وصلنا لقسمطينة؟
أجبتها:
– ما زال ثلث ساعة ونوصلو آمّا.
باشرت بملء استمارتي واستمارتها. هو لا استمارة له, ربما أن له ترف السفر بتذكرة تساوي أضعاف ثمن أية تذكرة لراكب يجلس “فوقه”.
حتماً في الأمر مزحة ما. إنه يساوي ميتاً, أضعاف ما كان يساويه حيّاً, فلماذا إذن هو بارد وحزين إلى هذا الحد؟
ألم ينتظر يوماً مطيراً كهذا عمراً بأكمله يعود فيه محمولاً على أكتاف السحب إلى قسنطينة؟
هاهوذا بلغها أخيراً.

قسمطينة..آ الميمة جيتك بيه. صغيرك العائد من براد المنافي, مرتعداً كعصفور ضمّيه. كان عليه أن يقضي عمراً من أجل بلوغ صدرك. وليدك المغبون, لفرط ما هو لك ما عاد هو, لفرط ما كان خالد ما عاد زيان, لفرط ما أصبح زيان ما وجد له مستقراً غير قبر أخيه.
نحن أبناء الصخرة, ما عدنا ندري أيَّا منا صخر. ما عادت من خنساء لنستدل على قبرنا بدموعها. كلنا في هذه الطائرة “صخر”. لكن ما عليهش يا امّا.. سنواصل توسيع المدافن.

فجأة نطقت تلك الفتاة المحصَّنة بالصمت كقلعة, وقالت:
-هل بإمكاني أن أستعير قلمك؟
أجبتها وأنا أمدّها بالقلم:
– حتماً..
كان في صوتها غيم و رذاذ, وحزن موسيقى تنهطل. لكنّي فتحت مظلة الصمت.
كنت مغلقاً في وجه رياح الرغبات المباغتة, متحاشياً درباً متعرجاً قد يوصلني إلى امرأة جالسة على الكرسيّ الملاصق, ففي قسنطينة ذات المنعطفات الكثيرة, ليس ثمة طريق مستقيم يوصلك إلى مبتغاك.. المسار دائماً لولبيّ!
أعادت لي القلم بعد أن انتهت من ملء استمارتها. لم تقل سوى “شكراً” وانكفئت في صمتها.
تكفَّلت جارتي بفضول العجائز سؤالها:
– إن شاء الله كاين اللي يجي يلاقيك في هاذا الليل يا بنتي, وإلا نوصلوك معانا أنا وابني. الحالة ماهيش مليحة هاذ الأيام.
ردت شاكرة:
– يعطيك الصحة.. راح يجي خويا يلاقيني.
استنتجت أنها لم تكن متزوجة وأنها تعيش مع أهلها.

كانت المضيفة تمر لحظتها بعربة البضائع. طلبت منها علبة سجائر. كنت على وشك أن أدفع ثمنها, عندما سمعت الفتاة تسألها إن كان يوجد عندها ذلك العطر. بقيت مندهشاً, شعرت أنّ الحياة تستفزني, وتواصل معابثتي.
كان الأمر شيء يتجاوز جمال مصادفة تطابق في اختيار نوع عطر بالذات, إلى هول تصادف وجود تابوته تحتنا. هو الذي كان يحتفظ بين أشيائه بقارورةٍ فارغة لهذا العطر نفسه.
ما عاد السؤال: من أين له تلك القارورة؟ وعلى أية أنثى انسكبت؟ ومنذ متى وهو يحتفظ بها كما يحتفظ يتيم بشيءٍ وحده يعرف قيمته؟ بل غدا سؤالاً آخر إقشعّر له جسدي: ماذا لو كان هو الذي طلب ذلك العطر لأنه اليوم أحوجنا إليه؟
غير أنه في العالم السفلي, حيث هو, لم يتحرر بالموت من الحياة فحسب, بل تحرر به من محنة يتمه واغترابه. فما حاجته إلى عطرٍ يسكبه في قارورة اليتم الفارغة؟
إنه اليوم الأقل يتماً بيننا. لا يخاف على شذى فرحة أن تنضب, له رائحة لا يستطيع الزمن أن ينال منها, إنها رائحة الأبدية.
أم تراه, في عزلة جثمانٍ ينفضح برائحته, هو يحتاج ذلك العطر للجم رائحة توقظ شراهة الديدان, وتشي ببشاعة رجلٍ كان حريصاً على جمالية الحضور.
غير أن العطر في قارورة هو مشروع شذى رائحة. لا يصبح كذلك إلا بانصهاره بكيمياء الجسد. ولذا ما عاد بإمكان عطرٍ أن يغطّي على تلك الرائحة.
الرائحة, لا شيء غير اعتذار عطرٍ تأخر فناب عنه الموت.

عندما عادت المضيفة لتقبض ثمن قارورة العطر من الفتاة, راودتني فكرة أن أهديها إياه, إكراماً لتهكم رائحته, على يتمٍ ننفضح به عطراً في غيابه.
غير أنني لم أفعل, خشية أن لا تطمئن لعذري, وتظنني أتحرش بها كعادة البائسين من الرجال, عندما يظفرون بأنثى مربوطة إلى جوارهم.
أكنت بذريعة ملامسة جثمانه بعطر.. لا أسعى سوى لملامسة صمتها؟

كنت سعيداً بذلك القليل الذي قالته. مستمتعاً بالارتباك اللذيذ أمام شيء شبيه بالحب. ذاهباً بالصمت إلى أقصاه, مهيئاً بيننا بعمق الالتباس حفرة لغرس شتلة الشهوات. تأخذني سنة التفكير إلى نسج أكثر من بداية قصة قد تكون لي مع هذه المرأة.
فوق هول النهايات, أصابني رعب البدايات, جمال الخوف العاطفي, دواره وإغراؤه. إن إستطعت تأمين مظلةٍ تقيني رذاذ الرغبة, من أين لي بكمامة تصد شذى عطر الغواية النفاذ؟

كان العبور الخاطف لرائحته, يشوش بعض الوقت على اشتهائي لها. لكن ما استطاع أن يلغي سلطة عطرها عليّ.
كان الحب يتقدم نحوي كوقع حوافر الجياد, يسبقه غبار الماضي, ذلك أن في هذه المرأة شيئاً من تلك. شيء منها لاأعرفه بعد, لكنني أتشممه.
تلك التي يوم رأيتها لأول مرة في ذلك المقهى ذات ثلاثين أكتوبر عند الساعة الواحدة والربع, شعرت بصاعقة الاصطدام العشقيّ بين كوكبين سيتشظّيا انخطافاً أحدهما بالآخر.
أذكر, من هول الانبهار بفاجعة على ذلك القدر من جمال الدمار, أني قلت لها وأنا أستأذنها في الجلوس: ” سيدتي.. أشكر الدورة الدموية للكرة الأرضية, لأنها لم تجعلنا نلتقي قبل اليوم”.

في مجرة الحب, من يدير سير الكواكب؟ من يبعدها ويقرِّبها؟ من يبرمج تلاقيها وتصادمها؟ من يطقئ إحداها ويضيء أخرى في سماء حياتنا؟ وهل ينبغي أن يتعثّر المرء بجثمان ليقع في الحب؟
في سعينا إلى حبٍّ جديد, دوماً نتعثر بجثمان من أحببنا, بمن قتلناهم حتى نستطيع مواصلة الطريق نحو غيرهم, لكأننا نحتاج جثمانهم جسراً. ولذا في كلّ عثراتنا العاطفية, نقع في المكان نفسه, على الصخرة نفسها, وتنهض أجسادنا مثخنةٍ بخدوشٍ تنكأُ جراح ارتطامنا بالحب الأول. فلا تهدر وقتك في نصح العشاق, للحبّ أخطاء أبدية واجبة التكرار!
أأكون ما شفيت منها؟ لكأنها امرأة داخلة في خياشيم ذاكرتي, مخترقة مسام قدري. أتعثّر بعطرها أينما حللت.
ما كانت ” حياة”.. إنها الحياة.

كم حلمت بطائات تأخذني إليها, بمدن جديدة نزورها معاً, بغرف فنادق ينغلق فيها الباب علينا, بصباحات آخذ فيها حمامي فتناولني شفتيها منشفة, بأماسٍ نتحدث فيها طويلاً عن الحب والموت, عن الله, عن العسكر, عن الأحلام المغدور بها.. وعن الأوطان الخادعة.
حلمت برقمها يظهر على شاشة هاتفي, بصوتها يتناول معي قهوتي, يرافقني إلى مكتبي, يجتاز معي الشوارع, يركب معي الطائرات, يضمّني حزام أمان في كل مقعد, يطاردني بخوف الأمهات, يطمئنني, يطمئن عليّ, صوت يأخذ بيدي.
لكن, دوماً كانت لي مع هذه المرأة متع مهددة. ليس ثمة غير هذه الجثث التي بيننا. إحداها تسافر معي, تسترق السمع إليّ, وتضحك ملء موتها منيّ.
في حب كذاك لا تتعثر بجثة. أنت تتعثّر بمقبرة.

كنت منشغلاً بذكراها , عندما فاجأني صوت المضيفة” الرجاء أن تقوّموا ظهور مقاعدكم..أن تبقوا أحزمتكم مربوطة.. وأن تكفّوا عن التدخين”.
بدأت العجوز على يميني تطالبني بالاهتمام بها. ساعدتها على ربط حزامها, وأنزلت الستارة الصغيرة للنافذة, حتى لا تزداد رعباً إنْ هي نظرت إلى قسنطينة من فوق.
– ما تشوفيش لتحت يامّا.
كنت أريد أن تطلق سبيلي قليلاً. أن أنظر أنا أيضاً جواري, على يساري, كي أنسى العالم السفلي. أن أسرق اللحظات الأخيرة من هذا الموعد الشاهق في غرائبيته, لأقول شيئاً لعطرٍ جاء حضوره متأخراً , ومخيفاً, كلحظة هبوط طائرة.
لكن الطائرة حطت على الأرض بتلك السرعة الارتطامية القصوى التي تنزل بها الطائرات. كان أزير محركاتها يعلو وهي تسرع بنا على مدرج المطار, ولم يعد بإمكان أحد تبادل أيّ حديث.

ذهب تفكيري عنده, إلى نعشه الذي يرتجّ اللحظة مرتطماً بتراب قسنطينة.
هنا نفترق أنا وهو. هنا ينتهي مهرجان السفر. ولا أملك إلاأن أأتمنها عليه. إنه الليل, والوقت غير مناسب لللإرتماء في حضنها.
باكراً تذهب إلى النوم قسنطينة, ولا أحد يجرؤ على إيقاظ حارس الموتى الذي ارتدى منامة الغفلة خوفاً من القتلة.
عليك أن تعرف أنك منذ الآن في حماية الديدان, التي في غيبتك عششت وتناسلت فوق التراب وتحته.
أن تتفهم جشع الديدان البشرية, التي جمعت ثروتاه من موائد تعففك وترفعك حياً عما كان وليمتها. وستحرّض عليك اليوم أخرى, لتقتات بما بقي من جسد سبق أن أطعمت بعضه للثورة.
نفاخر بمآثر الديدان وإكراماً لنهمها لمزيد من الشهداء, نقدم لها بهاء أجسادنا قرابين ولاء.
فعمرك المسفوح بين ثورتك وثروتهم, منذور يا صديقي كجسدك لديدان الوطن, التي يتولّى مزارعو تخصيب الموت تربيتها وتهيأة التربة الأفضل لها, كما تربي بلاد أخرى في أحواضها اللؤلؤ والمرجان.

مستسلم هو للنعاس الأخير, ومنهك الأحلام أنا. لا أدري من منا الأعظم خوفاً. سيدتي قسنطينة التي لا تستيقظ إلا لجدولة موتنا, تعفّفي عن إيذاء حلمه, تظاهري بالإكتراث به, أحضنيه كذباً وعودي إلى النوم. لا تدققي في أوراقه كثيراً. لا تسأليه عن إسمه, حيثما حلّ كان اسمه القسنطيني, والآن وقد حلّ فيك امنحي إسمه لصخرة أو شجرة عند أقدام جسر, ما دامت كل الشوارع والأزقة محجوزة أسماؤها لقدامى الشهداء والخسارات القادمة.

كان أزير الطائرة يغطّي على صخب صمت تقاسمته طوال الرحلة معه.
ماذا أستطيع ضدّ قدر حجز لي في سفريات الحياة مقعداً فوق رائحة.. وجوار عطر, يستقلان الطائرة نفسها.
وحدها العجوز المتشبثة بذراعي تشبّثها بالحياة كانت تصلني دعواتها وابتهالاتها المذعورة.
كان صوت المضيفة يعلن:” الحرارة في الخارج ست درجات. الساعة الآن تشير إلى الحادية عشرة والنصف ليلاً. الرجاء إبقاء أحزمتكم مربوطة. لقد حطّت بنا الطائرة في مطار محمد بوضياف.. قسنطينة”.

إنتهت في 10 يوليو 2002 م
الساعة العاشرة والنصف ..صباحاً

أضف تعليق