اهداء
الى أبي… دوما.
والى شرفاء هذه الأمة ورجالها الرائعين, الذين يعبرون بأقدارهم دون انحناء, متشبثين بأحلام الخاسرين.
واليك في فتنة عبورك الشامخ, عبورك الجامح,يوم تعثر بك قدري…كي تقيم.

أحلام

“عابرة سبيل هي الحقيقة..
ولا شيء يستطيع أن يعترض سبيلها”.
ايميلزولا

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

كنا مساء اللهفةالأولى, عاشقين في ضيافة المطر, رتبت لهما المصادفة موعدا خارج المدن العربيةللخوف.
نسينا لليلة أن نكون على حذر, ظنا منا أن باريس تمتهن حراسةالعشاق.
إن حبا عاش تحت رحمة القتلة, لا بد أن يحتمي خلف أول متراس متاح للبهجة. أكنا إذن نتمرن رقصا على منصة السعادة, أثناء اعتقادنا أن الفرح فعل مقاومة؟ أم أنبعض الحزن من لوازم العشاق؟

في مساء الولع العائد مخضبا بالشجن. يصبح همككيف تفكك لغم الحب بعد عامين من الغياب, وتعطل فتيله الموقوت, دون أن تتشظىبوحا.
بعنف معانقة بعد فراق, تود لو قلت “أحبك” كما لو تقول “ما زلت مريضابك“.
تريد أم تقول كلمات متعذرة اللفظ , كعواطف تترفع عن التعبير, كمرض عصي علىالتشخيص.
تود لو استطعت البكاء. لا لأنك في بيته, لا لأنكما معا, لا لأنها أخيراجاءت, لا لأنك تعيس ولا لكونك سعيدا, بل لجمالية البكاء أمام شيء فاتن لن يتكرركمصادفة.

التاسعة والربع ,وأعقاب سجائر.
وقبل سيجارة من ضحكتها الماطرةالتي رطبت كبريت حزنك.
كنت ستسألها , كيف ثغرها في غيابك بلغ سن الرشد؟
وبعيدقبلة لم تقع, كنت ستستفسر: ماذا فعلت بشفتيها في غيبتك؟ من رأت عيناها؟ لمن تعرىصوتها؟ لمن قالت كلاما كان لك؟
هذه المرأة التي على ايقاع الدفوف القسنطينية, تطارحك الرقص كما لو كانت تطارحك البكاء. ماالذي يدوزن وقع أقدامها, لتحدث هذاالاضطراب الكوني من حولك؟
كل ذاك المطر. وأنت عند قدميها ترتل صلوات الاستسقاء. تشعر بانتماءك إلى كل أنواع الغيوم. إلى كل أحزاب البكاء, إلى كل الدموع المنهطلةبسبب النساء.

هي هنا. وماذا تفعل بكل هذا الشجن؟ أنت الرجل الذي لا يبكي بليدمع, لا يرقص بل يطرب, لا يغني بل يشجى.
أمام كل هذا الزخم العاطفي, لا ينتابكغير هاجس التفاصيل, متربصا دوما برواية.
تبحث عن الأمان في الكتابة؟ ياللغباء!
ألأنك هنا, لا وطن لك ولا بيت, قررت أن تصبح من نزلاء الرواية, ذاهباالى الكتابة, كما يذهب آخرون الى الرقص, كما يذهب الكثيرون الى النساء, كما يذهبالأغبياء الى حتفهم؟
أتنازل الموت في كتاب؟ أم تحتمي من الموت بقلم؟

كنافي غرفة الجلوس متقابلين, على مرمى خدعة من المخدع. عاجزين على انتزاع فتيل قنبلةالغيرة تحت سرير صار لغيرنا.
لموعدنا هذا , كانت تلزمنا مناطق منزوعة الذكريات, مجردة من مؤامرة الأشياء علينا, بعيدة عن كمين الذاكرة. فلماذا جئت بها إلى هذاالبيت بالذات, إذا كنت تخاف أن يتسرب الحزن إلى قدميها؟
ذلك أن بي شغفا إلىقدميها. وهذه حالة جديدة في الحب. فقبلها لم يحدث أن تعلقت بأقدام النساء.
هي ماتعودت أن تخلع الكعب العالي لضحكتها, لحظة تمشي على حزن رجل.
لكنها انحنت ببطءأنثوي, كما تنحني زنبقة برأسها, وبدون أن تخلع صمتها, خلعت ما علق بنعليها من دمي, وراحت تواصل الرقص حافية مني.
أكانت تعي وقع انحنائها الجميل على خساراتي, وغواية قدميها عندما تخلعان أو تنتعلان قلب رجل؟
شيء ما فيها, كان يذكرني بمشهدريتا هاورث” في ذلك الزمن الجميل للسينما, وهي تخلع قفازيها السوداوين الطويلين منالساتان, إصبعا إصبعا, بذلك البطء المتعمد, فتدوخ كل رجال العالم بدون أن تكون قدخلعت شيئا.
هل من هنا جاء شغف المبدعين بتفاصيل النساء؟ ولذا مات بوشكين في نزالغبي دفاعا عن شرف قدمي زوجة لم تكن تقرأه.

في حضرتها كان الحزن يبدو جميلا. وكنت لجماليته, أريد أن أحتفظ بتفاصيله متقدة في ذاكرتي, أمعن النظر إلى تلك الأنثىالتي ترقص على أنغام الرغبة, كما على خوان المنتصرين, حافية من الرحمة بينما أتوسدخسارات عمري عند قدميها.

هي ذي , كما الحياة جاءت, مباغتة كل التوقعات, لكأنها تذهب الى كل حب حافية مبللة القدمين دوما, لكأنها خارجة لتوها من بركةالخطايا أو ذاهبة صوبها.
اشتقتها! كم اشتقتها, هذه المرأة التي لم أعد أعرفقرابتي بها, فأصبحت أنتسب الى قدميها.
هي ذي . وأنا خائف, إن أطلت النظر إلىالعرق اللامع على عري ظهرها , أن يصعقني تيار الأنوثة.
هي أشهى, هكذا. كامرأةتمضي مولية ظهرها, تمنحك فرصة تصورها, تتركك مشتعلا بمسافة مستحيلها.

أناالرجل الذي يحب مطاردة شذى عابرة سبيل, تمر دون أن تلتفت. تميتني امرأة تحتضنهاأوهامي من الخلف. ولهذا اقتنيت لها هذا الفستان الأسود من الموسلين, بسبب شهقةالفتحة التي تعري ظهره, وتسمرني أمام مساحة يطل منها ضوء عتمتها.
أو ربمااقتنيته بسبب تلك الاهانة المستترة التي اشتممتها من جواب بائعة, لم تكن تصدق تماماأن بامكان عربي ذي مظهر لا تفوح منه رائحة النفط, أن ينتمي الى فحش عالمالاقتناء.

كنت أتجول مشيا قادما من الأوبرا, عندما قادتني قدماي الى “فوبورسانت أونوريه” . ما احتطت من شارع تقف على جانبيه سيارات فخمة في انتظار نساءمحملات بأكياس فائقة التميز, ولا توجست من محلات لا تضع في واجهاتها سوى ثوب واحدأو ثوبين. لم أكن أعرف ذلك الحي , أصلا.
عرفت اسم الحي في مابعد, عندما أمدتنيالبائعة ببطاقة عليها العربون الذي دفعته لأحجز به ذلك الثوب.
بتلك الأنفةالمشوبة بالجنون, بمنطق” النيف” الجزائري تشتري فستان سهرة يعادل ثمنه معاشك فيالجزائر لعدة شهور, أنت الذي تضن على نفسك بالأقل. أفعلت ذلك رغبة منك في تبذير مالتلك الجائزة التي حصلت عليها, كما لتنجو من لعنة؟ أم لتثبت للحب أنك الأكثر سخاءمنه؟
أن تشتري فستان سهرة لامرأة لم تعد تتوقع عودتها, ولا تعرف في غيابك ماذافعل الزمن بقياساتها, أهي رشوة منك للقدر؟ أم معابثة منك للذاكرة؟ فأنت تدري أن هذاالفستان الذي بنيت عليه قصة من الموسلين لم يوجد يوما, ولكن الأسود يصلح ذريعة لكلشيء.
ولذا هو لون أساسي في كل خدعة.

أذكر يوم صادفتها في ذلك المقهى, منذأكثر من سنتين, لم أجد سوى ذريعة من الموسلين لمبادرتها. سائلا ان كانت هي التيرأيتها مرة في حفل زفاف, مرتدية ثوبا طويلا من الموسلين الأسود.
ارتبكت. أظنهاكانت ستقول”لا” ولكنها قالت “ربما” .
أحرجها أن تقول ” نعم “.
في الواقع, لمنكن التقينا بعد. لكنني كنت أحب أن أختلق, مع امرأة , ذكريات ماض لم يكن. أحب كلذاكرة لا منطق لها.
بدأنا منذ تلك اللحظة نفصل قصة على قياس ثوب لم يوجد يوما فيخزانتها.
عندما استوقفني ذلك الفستان قبل شهرين في واجهة محل, شعرت أنني أعرفه. أحببت انسيابه العاطفي. لكأنه كان يطالب بجسدها أن يرتديه, أو كأنه حدث لها أنارتدته في سهرة ما , ثم علقته على ” الجسد المشجب” لامرأة أخرى , ريثماتعود.
عندما دخلت المحل , كنت مرتبكا كرجل ضائع بين ملابس النساء. فأجبت بأجوبةغبية عن الأسئلة البديهية لتلك البائعة المفرطة في الأناقة قدر فرطها في التشككبنيتي.

Dans quelle taille voulez-vous cette robe Monsieur

?

كيف لي أن أعرف قياس امرأة ما سبرت جسدها يوما الا بشفاهاللهفة؟ امرأة أقيس اهتزازاتها بمعيار ريختر الشبقي. أعرف الطبقات السفلية لشهوتها. أعرف في أي عصر تراكمت حفريات رغباتها, وفي أي زمن جيولوجي استدار حزام زلازلها, وعلى أي عمق تكمن مياه أنوثتها الجوفية. أعرف كل هذا… ولم أعد , منذ سنتين ,أعرفقياس ثوبها!

لم تفاجأ البائعة كثيرا بأميتي, أو ألا يكون ثمن ذلك الثوب فيحوزتي. فلم يكن في هيئتي ما يوحي بمعرفتي بشؤون النساء, ولا بقدرتي على دفع ذلكالمبلغ.
غير أنها فوجئت بثقافتي عندما تعمدت أن أقول لها بأنني غير معني باسممصمم هذا الفستان, بقدر ما يعنيني تواضعه أمام اللون الأسود, حتى لكأنه ترك لهذااللون أن يوقع الثوب نيابة عنه, في مكمن الضوء, وأنني أشتري ضوء ظهر عار بثمنفستان!
قالت كمن يستدرك:
أنت رجل ذواقة.
ولأنني لك أصدق مديحها, لاقتناعي أن الذوق لمثلها يرقى وينحط بفراغ وامتلاء محفظة نقود, قلت:
هي ليستقضية ذوق, بل قضية ضوء. المهم ليس الشيء بل إسقاطات الضوء عليه. سالفادور دالي أحب Gala وقرر خطفها من زوجها الشاعر بول ايلوار لحظة رؤيته ظهرها العاري في البحر صيف 1949.

سألتني مندهشة لحديث لم يعودها عليه زبائن , شراء مثل هذا الثوب ليسحدثا في ميزانيتهم.
هل أنت رسام؟
كدت أجيب ” بل أنا عاشق” . لكننيقلت:
لا … أنا مصور.
وكان يمكن أن أضيف أنني مصور ” كبير” , مادمت موجودافي باريس لحصولي على جائزة أحسن صورة صحافية عامئذ. فلم يكن في تلك الصورة التينلتها مناصفة مع الموت, ما يغري فضول امرأة مثلها. ولذا هي لن تفهم أن يكون هذاالثوب الأسود هو أحد الاستثمارات العاطفية التي أحببت أن أنفق عليها ما حصلت عليهمن تلك المكافأة.
من قال إن الأقدار ستأتي بها حتى باريس, وإنني سأراهيرتديها؟

هاهي ترتديه . تتفتح داخله كوردة نارية. هي أشهى هكذا, وهي تراقصفي حضوري رجلا غيري, هو الحاضر بيننا بكل تفاصيل الغياب.
لو رأى بورخيس تلكالمرأة ترقص لنا معا, أنا وهو, لوجد ” للزاندالي” قرابة بالرقص الأرجنتيني, كماالتانغو, انه ” فكر حزين يرقص” على إيقاع الغيرة لفض خلافات العشاق.
في لحظة ما , لم تعد امرأة . كانت الهة إغريقية ترقص حافية لحظة انخطاف.
بعد ذلك سأكتشفأنها كانت الهة تحب رائحة الشواء البشري, ترقص حول محرقة عشاق تعاف قرابينهم ولاتشتهي غيرهم قربانا.
لكأنها كانت قسنطينة, كلما تحرك شيء فيها , حدث اضطرابجيولوجي واهتزت الجسور من حولها, ولا يمكنها أن ترقص إلا على جثث رجالها.
هذهالفكرة لم تفارقني عندما حاولت فيما بعد فهم نزعاتها المجوسية.
ماالذي صنع منتلك المرأة روائية تواصل , في كتاب, مراقصة قتلاها؟ أتلك النار التي خسارة بعدأخرى, أشعلت قلمها بحرائق جسد عصي على الاطفاء؟
أم هي رغبتها في تحريض الريح, باضرام النار في مستودعات التاريخ التي سطا عليها رجال العصابات؟
في الواقع كنتأحب شجاعتها, عندما تنازل الطغاة وقطاع طرق التاريخ, ومجازفتها بتهريب ذلك الكم منالبارود في كتاب. ولا أفهم جبنها في الحياة, عندما يتعلق الأمر بمواجهةزوج.
تماما, كما لا أجد تفسيرا لذكائها في رواية, وغبائها خارج الأدب, الى حدعدم قدرتها, وهي التي تبدو خبيرة في النفس البشرية, على التمييز بين من هو مستعدللموت من أجلها, ومن هو مستعد أن يبذل حياته من أجل قتلها. انه عماء المبدعين فيسذاجة طفولتهم الأبدية.
ربما كان عذرها في كونها طفلة تلهو في كتاب. هي لا تأخذنفسها مأخذ الأدب, ولا تأخذ الكتابة مأخذ الجد. وحدها النار تعنيها.
ولذا, قلتلها يوما: ” لن أنتزع منك أعواد الثقاب, واصلي اللهو بالنار من أجل الحرائقالقادمة“.

ذلك أن الرواية لم تكن بالنسبة لها, سوى آخر طريق لتمرير الأفكارالخطرة تحت مسميات بريئة.
هي التي يحلو لها التحايل على الجمارك العربية, وعلىنقاط التفتيش, ماذا تراها تخبئ في حقائبها الثقيلة, وكتبها السميكة؟
أنيقةحقائبها. سوداء دائما. كثيرة الجيوب السرية, كرواية نسائية , مرتبة بنية تضليلية, كحقيبة امرأة تريد إقناعك أنها لا تخفي شيئا.
ولكنها سريعة الانفتاح كحقائبالبؤساء من المغتربين.
أكل كاتب غريب يشي به قفل, غير محكم الإغلاق, لحقيبةأتعبها الترحال, لا يدري صاحبها متى, ولا في أي محطة من العمر, يتدفق محتواها أمامالغرباء, فيتدافعون لمساعدته على لملمة أشيائه المبعثرة أمامهم لمزيد من التلصصعليه؟ وغالبا ما يفاجأون بحاجاتهم مخبأة مع أشيائه.
الروائي سارق بامتياز. سارقمحترم. لا يمكن لأحد أن يثبت أنه سطا على تفاصيل حياته أو على أحلامه السرية. منهنا فضولنا أمام كتاباته, كفضولنا أمام حقائب الغرباء المفتوحة على السجادالكهربائي للأمتعة.

أذكر, يوم انفتحت حقيبة تلك المرأة أمامي لأول مرة , كنتيومها على سرير المرض في المستشفى, عندما خطر على بال عبد الحق, زميلي في الجريدة, أن يهديني ذلك الكتاب.. كتابها.
كنت أتماثل للشفاء من رصاصتين تلقيتهما في ذراعياليسرى, وأنا أحاول التقاط صور للمتظاهرين أثناء أحداث أكتوبر 1988 .
كانتالبلاد تشهد أول تظاهرة شعبية لها منذ الاستقلال, والغضب ينزل الى الشوارع لأولمرة, ومعه الرصاص والدمار والفوضى.
لم أعرف يومها , أتلقيت تينك الرصاصتين منأعلى أحد المباني الرسمية , عن قصد أم عن خطأ؟ أكان العسكر يظنون أنني أمسك سلاحاأصوبه نحوهم, أم كانوا يدرون أنني لا أمسك بغير آلة تصويري, عندما أطلقوا رصاصهمنحوي قصد اغتيال شاهد إثبات.
تماما, كما سوف لن أدري يوما: أعن قصد, أم عنمصادفة جاءني عبد الحق بذلك الكتاب.
أكان ذلك الكتاب هدية القدر؟ أم رصاصتهالأخرى؟ أكان حدثا أم حادثا آخر في حياتي؟ ربما كان الاثنان معا.

ليس الحب, ولا الاعجاب, بل الذعر هو أول احساس فاجأني أمام ذلك الكتاب .” ليس الجمال سوىبداية ذعر يكاد لا يحتمل” . وكنت مذعورا أمام تلك الرؤى الفجائية الصاعقة, أمام ذلكالارتطام المدوي بالآخر.
أي شيء جميل هو في نهايته كارثة. وكيف لا أخشى حالة منالجمال.. كان يزمني عمر من البشاعة لبلوغها.
كنت أدخل مدار الحب والذعر معا, وأنا أفتح ذلك الكتاب. منذ الصفحة الأولى تبعثرت أشياء تلك المرأة على فراشمرضي.
كانت امرأة ترتب خزانتها في حضرتك. تفرغ حقيبتها وتعلق ثيابها أمامك, قطعةقطعة, وهي تستمع الى موسيقى تيودوراكيس, أو تدندن أغنية لديميس روسوس.
كيف تقاومشهوة التلصص على امرأة, تبدو كأنها لا تشعر بوجودك في غرفتها , مشغولة عنك بترتيبذاكرتها؟
وعندما تبدأ في السعال كي تنبهها الى وجودك, تدعوك الى الجلوس علىناصية سريرها, وتروح تقص عليك أسرارا ليست سوى أسرارك, واذ بك تكتشف أنها كانت تخرجمن حقيبتها ثيابك, منامتك, وأدوات حلاقتك, وعطرك , وجواربك, وحتى الرصاصتين اللتيناخترقا ذراعك.
عندها تغلق الكتاب خوفا من قدر بطل أصبحت تشبهه حتى في عاهته. ويصبح همك, كيف التعرف على امرأة عشت معها أكبر مغامرة داخلية. كالبراكين البحرية, كل شيء حدث داخلك. وأنت تريد أن تراها فقط, لتسألها ” كيف تسنى لها أن تملأ حقيبتهابك؟

ثمة كتب عليك أن تقرأها قراءة حذرة.
أفي ذلك الكتاب اكتشفت مسدسهامخبأ بين ثنايا ثيابها النسائية, وجملها المواربة القصيرة؟
لكأنها كانت تكتبلتردي أحدا قتيلا, شخصا وحدها تعرفه. ولكن يحدث أن تطلق النار عليه فتصيبك. كانتتملك تلك القدرة النادرة على تدبير جريمة حبر بين جملتين, وعلى دفن قارئ أوجدهفضوله في جنازة غيره. كل ذلك يحدث أثناء انشغالها بتنظيف سلاح الكلمات!
كنتأراها تكفن جثة حبيب في رواية, بذلك القدر من العناية, كما تلفلف الأم رضيعا بعدحمامه الأول.
عندما تقول امرأة عاقر: ” في حياة الكاتب تتناسل الكتب”, هي حتماتعني “تتناسل الجثث” وأنا كنت أريدها أن تحبل مني , أن أقيم في أحشائها, خشية أنأنتهي جثة في كتاب.
كنت مع كل نشوة أتصبب لغة صارخا بها: ” احبلي .. إنها هنيهةالإخصاب
وكانت شفتاي تلعقان لثما دمع العقم المنحدر على خديها مدرارا كأنهاعتذار.
أحاسيس لم أعرفها مع زوجتي التي كنت لسنوات أفرض عليها تناول حبوب منعالحمل, مهووسا بخوفي أن أغتال فتتكرر في طفلي مأساتي. فكرة أن أترك ابني يتيما كانتتعذبني, حتى انني في الفترة التي تلت اغتيال عبد الحق, كنت أستيقظ مذعورا كما علىصوت بكاء رضيع.
مع حياة ,اكتشفت أن الأبوة فعل حب, وهي التي لم أحلم بالإنجاب منسواها. كان لي معها دوما “حمل كاذب“.
لكن, إن كنا لا ننجب من “حمل كاذب” , فإننانجهضه. بل كل إجهاض ليس سوى نتيجة حمل تم خارج رحم المنطق, وما خلقت الروايات إلالحاجتنا الى مقبرة تنام فيها أحلامنا الموءودة.

إن كنت أجلس اليوم لأكتب , فلأنها ماتت.
بعدما قتلتها, عدت لأمثل تفاصيل الجريمة في كتاب.
كمصور يترددفي اختيار الزاوية التي يلتقط منها صورته, لا أدري من أي مدخل أكتب هذه القصة التيالتقطت صورها من قرب, من الزوايا العريضة للحقيقة.
وبمنطق الصورة نفسها التيتلتقطها آلة التصوير معكوسة, ولا تعود الى وجهها الحقيقي الا بعدما يتم تظهيرها فيمختبر, يلزمني تقبل فكرة أن كل شيء يولد مقلوبا, وان الناس الذين نراهم معكوسين, همكذلك, لأننا التقينا بهم, قبل أن تتكفل الحياة بقلب حقيقتهم في مختبرها لتظهيرالبشر.
إنهم أفلام محروقة أتلفتها فاجعة الضوء, ولا جدوى من الاحتفاظ بهم. لقدولدوا موتى.

ليس ثمة موتى غير أولئك الذين نواريهم في مقبرة الذاكرة. اذنيمكننا بالنسيان, أن نشيع موتا من شئنا من الأحياء, فنستيقظ ذات صباح ونقرر أنهم ماعادوا هنا.
بامكاننا أن نلفق لهم ميتة في كتاب, أن نخترع لهم وفاة داهمة بسكتةقلمية مباغتة كحادث
سير, مفجعة كحادثة غرق, ولا يعنينا ذكراهم لنبكيها, كما نبكيالموتى. نحتاج أن نتخلص من أشيائهم, من هداياهم, من رسائلهم, من تشابك ذاكرتنا بهم. نحتاج على وجه السرعة أن تلبس حدادهم بعض الوقت, ثم ننسى.

لتشفى من حالةعشقية, يلزمك رفاة حب, لاتمثالا لحبيب تواصل تلميعه بعد الفراق, مصرا على ذياكالبريق الذي انخطفت به يوما. يلزمك قبر ورخام وشجاعة لدفن من كان أقرب الناساليك.
أنت من يتأمل جثة حب في طور التعفن, لا تحتفظ بحب ميت في براد الذاكرة, أكتب , لمثل هذا خلقت الروايات.
أذكر تلك الأجوبة الطريفة لكتاب سئلوا لماذايكتبون. أجاب أحدهم ” ليجاور الأحياء الأموات” , وأجاب آخر ” كي أسخر من المقابر” , ورد ثالث ” كي أضرب موعدا” .
أين يمكنك, الا في كتاب, أن تضرب موعدا لامرأة سبقأن ابتكرت خديعة موتها, مصرا على إقحام جثتها في موكب الأحياء, برغم بؤسالمعاشرة.
أليس في هذه المفارقة سخرية من المقابر التي تضم تحت رخامها , وتتركالأموات يمشون ويجيئون في شوارع حياتنا.

وكنت قرأت أن (الغوليين) سكان فرنساالأوائل, كانوا يرمون الى النار الرسائل التي يريدون إرسالها الى موتاهم. وبمكاتيبمحملة بسلاماتهم وأشواقهم وفجيعتهم.
وحدها النار, تصلح ساعي بريد. وحدهابامكانها انقاذ الحريق. أكل ذلك الرماد, الذي كان نارا, من أجل صنع كتابجميل؟
حرائقك التي تنطفئ كلما تقدمت في الكتابة, لا بد أن تجمع رمادها صفحةصفحة, وترسله الى موتاك بالبريد المسجل, فلا توجد وسيلة أكثر ضمانا منكتاب.
تعلم اذن أن تقضي سنوات في انجاز حفنة من رماد الكلمات, لمتعة رمي كتابالى البحر, أن تبعثر في البحر رماد من أحببت, غير مهتم بكون البحر لا يؤتمن علىرسالة, تماما كما القارئ لا يؤتمن على كتاب.
فكتابة رواية تشبه وضع رسالة فيزجاجة والقائها في البحر. وقد تقع في أيدي أصدقاء أو أعداء غير متوقعين. يقولغراهام غرين, ناسيا أن يضيف أنه في أغلب الظن ستصطدم بجثث كانت لعشاق لنا يقبعون فيقعر محيط النسيان. بعد أن غرقوا مربوطين الى صخرة جبروتهم وأنانيتهم. ما كان لناالا أن نشغل أيدينا بكتابة رواية, حتى لا تمتد الة حتف انقاذهم. بامكانهم بعد ذلك, أن يباهوا بأنهم المعنيون برفاة حب محنط في كتاب.
ام حبا نكتب عنه, هو حب لم يعدموجودا, وكتابا نوزع آلاف النسخ منه, ليس سوى رماد عشق ننثره في المكتبات.
الذيننحبهم, نهديهم مخطوطا لا كتابا, حريقا لا رمادا. نهديهم ما لا يساويهم عندنابأحد.

بلزاك في أواخر عمره , وهو عائد من روسيا, بعد زواجه من السيدةهانكسا, المرأة الأرستقراطية التي تراسل معها ثماني عشرة سنة ومات بعد زواجه منهابستة أشهر, كان يقول لها والخيول تجر كهولته في عربة تمضي به من ثلوج روسيا الىباريس:
في كل مدينة نتوقف فيها, سأشتري لك مصاغا أو ثوبا. وعندما سيتعذر عليذلك, سأقص عليك أحدوثة لن أنشرها“.
ولأنه أنفق ماله للوصول اليها, ولأن طريقالرجعة كان طويلا, قد يكون قص عليها قصصا كثيرة.
حتما, أجمل روايات بلزاك هي تلكالتي لم يقرأها أحد, وابتكرها من أجل امرأة ما عادت موجودة هنالتحكيها.

ربما لهذا, أكتب هذا الكتاب من أجل الشخص الوحيد الذي لم يعدبامكانه اليوم أن يقرأه, ذلك الذي ما بقي منه الا ساعة أنا معصمها, وقصة أناقلمها.
ساعته التي لم أكن قد تنبهت لها يوما كانت له, والتي مذ أصبحت لي, كأنيلم أعد أرى سواها. فمنه تعلمت أن أشلاء الأشياء أكثر ايلاما من جثث أصحابها.
هوالذي أجاد الحب , وكان عليه أن يتعلم كيف يجيد موته. قال ” لا أحب مضاجعة الموت فيسرير, فقد قصدت السرير دوما لمنازلة الحب, تمجيدا مني للحياة”. لكنه مات على السريراياه. وترك لي كغيره شبهة حب, وأشياء لا أدري ماذا أفعل بها.

ساعته أماميعلى الطاولة التي أكتب عليها. وأنا منذ أيام منهمك في مقايضة عمري بها. أهديه عمراافتراضيا. وقتا اضافيا يكفي لكتاية كتاب. تائها في تقاطع أقدارنا, لا أملك الابوصلة صوته, لأفهم بأية مصادفة أوصلنا الحب معا الى تلك المرأة.
أستمع دون تعبالى حواراتنا المحفوظة الى الأبد في تلك الأشرطة, الى تهكمه الصامت بين الجمل, الىذلك البياض الذي كان بيننا, حتى عندما كنا نلوذ بالكلام. صوته! يا اله الكائنات, كيف أخذته وتركت صوته؟ حتى لكأن شيئا منه لم يمت. ضحكته تلك!
كيف ترد عنك أذىالقدر عندما تتزامن فاجعتان ؟ وهل تستطيع أن تقول انك شفيت من عشق تماما من دون أنتضحك, أو من دون أن تبكي!

ليس البكاء شأنا نسائيا.
لا بد للرجال أنيستعيدوا حقهم في البكاء, أو على الحزن إذن أن يستعيد حقه في التهكم.
وعليك أنتحسم خيارك: أتبكي بحرقة الرجولة, أم ككاتب كبير تكتب نصا بقدر كبير من الاستخفافوالسخرية! فالموت كما الحب أكثر عبثية من أن تأخذه مأخذ الجد.
لقد أصبح , لألفتهوحميميته, غريب الأطوار. وحدث لفرط تواتره, أن أفقدك في فترات ما التسلسل الزمنيلفجائعك, فأصبحت تستند الى روزنامته لتستدل على منعطفات عمرك, أو على حادث ما , معتمدا على التراتب الزمني لموت أصدقائك. وعليك الآن أن تردع نزعتك للحزن, كما لجمتمع العمر نزعتك الى الغضب,أن تكتسب عادة التهكم والضحك في زمن كنت تبكي فيه بسببامرأة, أو بسبب قضية, أو خيانة صديق.
مرة أخرى,الموت يحوم حولك إيغالا بالفتكبك, كلؤم لغم لا ينفجر فيك, وإنما دوما بجوارك. يخطئك, ليصيبك حيث لا ترى, حين لاتتوقع. يلعب معك لعبة نيرون, الذي كان يضحك, ويقول انه كان يمزح كلما انقض على أحدأصحابه ليطعنه بخنجره فأخطأه.
اضحك يا رجل, فالموت يمازحك ما دام يخطئك كل مرةليصيب غيرك!

 

 

الفصل الثاني

في مارس 1942 , سجن جان جنيهلسرقته نسخة نادرة لأحد دواوين بول فرلين, بعد أن تعذر عليه, وهو الفقير المشرد, شراءها.
وعندما سئل أثناء التحقيق:”أتعرف ثمن هذه النسخة التي سرقتها؟” أجابجنيه الذي لم يكن قد أصبح بعد أحد مشاهير الأدب الفرنسي المعاصر:”لا… بل أعرفقيمتها“.
تذكرت هذه الحادثة, عندما بلغني أنني حصلت على جائزة العام, لأحسن صورةصحفية في مسابقة”فيزا الصورة” في فرنسا. ربما لأنني عندما سرقت تلك الصورة من فكالموت, لم أكن أعرف كم سيكون سعرها في سوق المآسي المصورة. ولكنني حتما كنت أعرفقيمتها, وأعرف كم يمكن لصورة أن تكون مكلفة, وقد كلفتني قبل عشر سنوات, عطبا فيذراعي اليسرى.

في صور الحروب التي أصبحت حرب صور, ثمة من يثرى بصورة, وثمةمن يدفع ثمنا لها.
وحدها صورة الحاكم الذي لا يمل من صورته, تمنحك راحة البال, إن كان لك شرف مطاردته يوميا في تنقلاته لالتقاطها. لكنك متورط في المأساة, وفيتاريخ كان ينادى فيه للمصور كما في اليمن السعيد في الخمسينات, ليلتقط لحظات إعدامالثوار وتخليد مشهد رؤوسهم المتطايرة بضربات السيوف في الساحات. أيامها, كان قطعالرؤوس أهم إنجاز, وعلى المصور الأول والأوحد في البلاد أن يبدأ بهمهنته.

ذات يوم, تنزل عليك صاعقة الصورة, تصبح مصورا في زمن الموتالعبثي.
كل مصور حرب, مشروع قتيل يبحث عن صورته وسط الدمار. ثمة مخاطرة في أنتكون مصورا للموت البشع. كأنه دمارك الداخلي. ولن يرمم خرابك عندذاك, حتى فرحةحصولك على جائزة.
المشاهير من مصوري الحروب الذين سبقوك إلى هذا المجد الدامي, يؤكدون:” أنت لن تخرج سالما ولا معافى من هذه المهنة”. لكنك تقع على اكتشاف آخر: لايمكنك أن تكون محايدا , وأنت تتعامل مع الرؤوس المقطوعة, واقفا وسط برك الدم لتضبطعدستك.
أنت متورط في تغذية عالم نهم للجثث, مولع بالضحايا, وكل أنواع الموتالغريب في بشاعته.
دكتاتورية الفرجة تفرض عليك مزيدا من الجثث المشوهة.
إنهميريدون صورا بدم ساخن, مما يجعلك دائم الخوف على صورك أن تبرد, أن يتخثر دمها ويجمدقبل أن ترسلها , هناك حيث من حنفية المآسي, تتدفق صور الإفناء البشري علىالوكالات.
أثناء ذلك, بإمكان الموتى أن يذهبوا إلى المقابر, أو أن ينتظروا فيالبرادات. لقد توقف بهم الموت, وجمدت صورتهم إلى الأبد على عدستك. ولن تدري أخلدتهمبذلك, أم أ،ك تعيد قتلهم ثانية.
لا يخفف من ذنبك إلا أنك خلف الكاميرا, لا تصورسوى احتمال موتك.
لكن هذا لا يرد الشكوك عنك. الجميع يشتبه في أمرك: ” لصالح منأنت تعمل؟”. أأنت هنا , لتمجيد إنجازات القتلة ومنحهم زهوا إعلاميا, أم بنقلك بشاعةجرائمهم تمنح الآخرين صك البراءة, وحق البقاء في الحكم؟ إلى أي حزب من أحزاب القتلىتنتمي؟ ولصالح من من القتلة ترسل صورك.. إلى الأعداء‍ !
وستقضي وقتك في الاعتذارعن ذنوب لم تقترفها, عن جائزة لم تسع إليها, عن بيت محترم تعيش فيه, ولا بيت لغيركمن الصحافيين, عن صديقك الذي قتل, والآخر الذي ذات 13 حزيران قتل امرأته وانتحر.. بعد أن عجز عن أن يكون من سماسرة الصورة.

كنت دائم الاعتقاد أن الصورة, كماالحب, تعثر عليها حيث لا تتوقعها. إنها ككل الأشياء النادرة.. هديةالمصادفة.
المصادفة هي التي قادتني ذات صباح إلى تلك القرية, وأنا في طريقي إلىالعاصمة, آتيا من قسنطينة بالسيارة, برغم تحذير البعض.
كنت مع زميل عندمااستوقفتنا قرية لم تستيقظ من كابوسها, ومازالت مذهولة أمام موتاها.
لم يكن ثمةمن خوف, بعد أن عاد الموت ليختبئ في الغابات المنيعة المجاورة, محاطا بغنائهوسباياه من العذراوات, ولن يخرج إلا في غارات ليلة على قرية أخرى, شاهرا أدوات قتلهالبدائية التي اختارها بنية معلنة للتنكيل بضحاياه, مذ صدرت فتوى تبشر “المجاهدينبمزيد من الثواب, إن هم استعملوا السلاح الأبيض الصدئ, من فؤوس وسيوف وسواطير, لقطعالرؤوس, وبقر البطون, وتقطيع الرضع إربا.
قلما كان القتلة يعودون, لأنهم قلماتركوا خلفهم شيئا يشي بالحياة. حتى المواشي كانت تجاوز جثث أصحابها, وتموت ميتةتتساوى فيها أخيرا بالإنسان.

كانت القرى الجزائرية أمكنة تغريني بتصويرها. ربما لأن لها مخزونا عاطفيا في ذاكرتي مذ كنت أزورها في مواكب الفرح الطلابي فيالسبعينات, مع قوافل الحافلات الجامعية, للاحتفال بافتتاح قرية يتم تدشينها غالبابحضور رسمي لرئيس الدولة, ضمن مشروع ألف قرية اشتراكية.
كان لي دائما إحساسبأنني قد عرفتهم فردا فردا, لذا عز علي أن أصور موتهم البائس, مكومين أمامي جثثا فيأكياس من النايلون؟
هم الذين أولموا لنا بالقليل الذي كانوا يملكون, ما أحزننيأن أكون شاهد تصوير على ولائم رؤؤسهم المقطوفة.
في زمن الهوس المرئي بالمذابح, وبالميتات المبيتة الشنيعة, من يصدق النوايا الحسنة لمصور تتيح له الصورة حق ملاحقةجثث القتلى ببراءة مهنية؟ ليست أخلاق المروءة, بل أخلاق الصورة, هي التي تجعلالمصور يفضل على نجدتك تخليد لحظة مأساتك.
في محاولة إلقاء القبض على لحظة الموتالفوتوغرافي, بإمكان المصور القناص مواصلة إطلاق فلاشاته على الجثث بحثا عن “الصورةالصفقة“.
فهو يدري أن للموت مراتب أيضا, وللجثث درجات تفضيل لم تكن لأصحابها فيحياتهم.
ثمة جثث من الدرجة الأولى, لأغلفة المجلات. وأخرى من الدرجة الثانية, للصفحات الداخلية الملونة. وثمة أخرى لن تستوقف أحدا , ولن يشتريها أحد. إنها صوريطاردك نحس أصحابها.
هاهوذا الموت ممد أمامك على مد البصر. أيها المصور..قمفصور!

ثم رأيته..
ماذا كان يفعل هناك ذلك, الصغير الجالس وحيدا على رصيفالذهول؟
كان الجميع منشغلين عنه بدفن الموتى. خمس وأربعون جثة. تجاوز عددها مايمكن لمقبرة قرية أن تسع من أموات فاستنجدوا بمقبرة القرية المجاورة.
في مذبحةبن طلحة, كان يلزم ثلاث مقابر موزعة على ثلاث قرى, لدفن أكثر من ثلاثمائة جثة. فهلالموت هذه المرة كان أكثر لطفا, وترك لفرط تخمينه بعض الأرواح تنجو من بينفكيه؟
كان الصغير جالسا كما لو أنه يواصل غيبوبة ذهوله. أخبرني أحدهم أنهم عثرواعليه تحت السرير الحديدي الضيق الذي كان ينام عليه والده. حيث تسلل من مطرحه الأرضيالذي كان يتقاسمه مع أمه وأخويه, وانزلق ليختبئ تحت السرير. أو ربما كانت أمه هيالتي دفعت به هناك لإنقاذه من الذبح. وهي حيلة لا تنطلي دائما على القتلة, حيث انهفي قرية مجاورة, قامت أم بإخفاء بناتها تحت السرير, غير أنهم عثروا على مخبئهن, نظرا لبؤس الغرفة التي كان السرير يشغل نصف مساحتها, فشدوهن من أرجلهن, وسحبوهم نحوساحة الحوش حيث قتلوهن ونكلوا بجثثهن.

ماذا تراه رأى ذلك الصغير, ليكون أكثرحزنا من أن يبكي؟
لقد أطبق الصمت على فمه, ولا لغة له إلا في نظرات عينيهالفارغتين اللتين تبدوان كأنهما تنظران إلى شيء يراه وحده. حتى انه لم ينتبه لجثةكلبه الذي سممه الإرهابيون ليضمنوا عدم نباحه, والملقاة على مقربة منه, في انتظارأن ينتهي الناس من دفن البشر ويتكلفوا بعد ذلك بمواراة الحيوانات.
كان يجلس وهويضم ركبتيه الصغيرتين إلى صدره. ربما خوفا, أو خجلا , لأنه تبول في ثيابه أثناءنومه أرضا تحت السرير, وما زالت الآثار واضحة على سرواله البائس.
هو الآن مستندإلى جدار كتبت عليه بدم أهله شعارات لن يعرف كيف يفك طلاسمها, لأنه لم يتعلمالقراءة بعد.ولأنه لم يغادر مخبأه, فهو لن يعرف بدم من بالتحديد وقع القتلةجرائمهم, بكلمات كتبت بخط عربي رديء, وبحروف مازال يسيل من بعضها الدم الساخن. أبدمأمه, أم أبيه , أم بدم أحد إخوته؟
هو لن يعرف شيئا. ولا حتى بأية معجزة نجا منبين فكي الموت, ليقع بين فكي الحياة. وأنت لا تعرف بأية قوة, ولا لأي سبب, تركتالموت في مكان مجاور, ورحت تصور سكون الأشياء بعد الموت, وصخب الدمار في صمته, ودموع الناجين في خرسهم النهائي.
لك تكن تصور ما تراه أنت, بل ما تتصور أن ذلكالطفل رآه حد الخرس.
عندما كنت ألتقط صورة لذلك الطفل, حضرني قول مصور أمريكيأمام موقف مماثل:”كيف تريدوننا أن نضبط العدسة وعيوننا مليئة بالدموع؟
ولم أكنبعد لأصدق, أنك كي تلتقط صورتك الأنجح, لا تحتاج إلى آلة تصوير فائقة الدقة, بقدرحاجتك إلى مشهد دامع يمنعك من ضبط العدسة.
لا تحتاج إلى تقنيات متقدمة في انتقاءالألوان, بل إلى فيلم بالأبيض والأسود, مادمت هنا بصدد توثيق الأحاسيس لاالأشياء.

أول فكرة راودتني, عندما علمت بنيلي تلك الجائزة العالمية عن أفضلصورة صحفية للعام, هي العودة إلى تلك القرية, للبحث عن ذلك الطفل.
كانت فكرةلقائي به تلح علي, وتتزايد يومابعد آخر, لتأخذ أحيانا بعدا إنسانيا, وأحيانا أخرشكل مشاريع فوتوغرافية أصور فيها عودة تلك القرية إلى الحياة.
حتى قبل أن أحصلعلى مال تلك الجائزة, كنت قد قررت أن أخصص نصفه لمساعدة ذلك الصغير على الخروج منمحنة يتمه. ونويت بيني وبين نفسي, أن أتكفل به مادمت حيا, بالقدر الذيأستطيعه.
لا أدري ماالذي كان يجعلني متعاطفا مع ذلك الطفل: أيتمنا المشترك؟ أمكونه أصبح ابنا لآلة التصوير بالتبني؟
وماالذي جعلني أستعجل التخلص من شبهة مالكانت تفوح منه رائحة مريبة,لجريمة كان جرمي الوحيد فيها توثيق فظاعات الآخرين. كأنني كنت أريد تبييض ذلك المال وغسله, مما علق به من دم , باقتسامه مع الضحيةنفسها.

طبعا كانت تحضرني قصة زميلي حسين الذي من أربع سنوات حصل على الجائزةالعالمية للصورة, عن صورته الشهيرة لامرأة تنتحب, سقط شالها لحظة ألم, فتبدت فيوشاح حزنها جميلة ومكابرة وعزلاء أمام الموت, حد استدراجك للبكاء. لكأنها تمثالالعذراء النائحة” لمايكل أنجلو.
وكان حسين, عند وصوله إلى قرية بن طلحة, وجدنفسه أمام أكثر من ثلاثمائة جثة ممدة في أكفانها. فتوجه إلى مستشفى بن موسى حيث أخذصورة لتلك المرأة التي فاجأها تنتحب, والتي قيل له إنها فقدت أولادها السبعة في تلكالمذبحة.
بعد ذلك, عندما انتشرت الصورة وجابت العالم, اكتشف حسين أن المرأةماكانت أم الأولاد بل خالتهم.
كان قد أخذ صورة للموت في كامل خدعته. فكل عبثيةالحرب كانت تختصر في صورة لامرأة وجدت مصادفة حيث عدسة المصور, وأطفال وجدوا مصادفةحيث براثن الموت.

الموت, كما الحب, فيه كثير من التفاصيل العبثية. كلاهماخدعة المصادفات المتقنة.
أما الأكثر غرابة فكون تلك المرأة , التي لم تقم دعوىضد القتلة, ولا طالبت الدولة بملاحقة الجزارين الذين نحروا الأجساد الصغيرةلأقاربها السبعة, جاء من يقنعها بأن ترفع دعوى على المصور الذي صنع “مجده” وثراءهبفجيعتها, عندما اكتشفت أن للصورة حقوقا في الغرب لا يملكها صاحبها في العالمالعربي. فتطوعت جمعيات لرفع الدعاوى على المجلات العالمية الكبرى التي نشرت الصورة, بذريعة الدفاع عن حياء الجزائري وهو ينتحب بعد مرور الموت!
لا أصعب على البعض منأن يرى جزائريا آخر ينجح. فالنجاح أكبر جريمة يمكن أن ترتكبها في حقه. ولذا قد يغفرللقتلة جرائمهم, لكنه لن يغفر لك نجاحاتك.
وكلما , بحكم المهنة أو بحكم الجوار, ازدادت قرابته منك, ازدادت أسباب حقده عليك, لأنه لا يفهم كيف وأنت مثله في كل شيء, تنجح حيث أخفق هو.
جارك الذي لعبت وتربيت معه منذ الطفولة, لو غرقت لجازف بحياتهلإنقاذك من الغرق. لكنك لو نجحت في البكالوريا, ورسب فيها, وستذهب إلى الجامعة, ويبقى هو مستندا إلى حائط الإخفاق. وذات يوم , ستخرج من مسدسه الرصاصة سترديك قتيلامكفنا بنجاحاتك.

عندما ظهر خبر نيلي الجائزة, أسفل الصفحة الأولى من الجريدةالأكثر انتشارا, تحت عنوان” جثة كلب جزائري تحصل على جائزة الصورة في فرنسا”, وتلاهفي الغد مقال آخر في جريدة بالفرنسية عنوانه” فرنسا تفضل تكريم كلاب الجزائر“, أدركت أن ثمة مكيدة تتدبر, وأن الأمر يتجاوز مصادفة الاتفاق في وجهة نظر.
كانتلعنة النجاح قد حلت بي, وانتهى الأمر.
لكن, كان لا بد أن يمر بعض الوقت, لأكتشفأن خلف ذلك الكم من الحقد والتجني جهد “صديق”. كان جاري في قسنطينة وتوسطت لهلينتقل إلى العمل في العاصمة, في الجريدة نفسها التي أعمل فيها, فوفر علي بكيده كلطعنات الأعداء, وجعلني أرى في جثة ذلك الكلب من الوفاء ما يغني عن إخلاص الأصدقاء, بعدما قدمت له من الخدمات ما يكفي لأجعل منه عدوا.

غير أن الموضوع عاد بعدذلك ليشغلني في طرحه الآخر:
تراهم منحوا الجائزة لصورة ذلك الطفل؟ أم لجثة ذلكالكلب؟
وماذا؟ وقد صدرنا إلى العالم مذابحنا على مدى سنوات, وتم إتلاف الحياةالشعورية لأناس أكثر من جثثنا, بعد أن أصبحت في ندرتها أكثر وقعا على أنفسهم من جثةالإنسان؟
أليست كارثة , لو أن ضمير الإنسان المعاصر أصبح حقا يستيقظ عندما يرىجثة كلب يذكره بكلبه, ولا يبدو مهتما بجثة إنسان آخر لا يرى شبها به, ولا قرابةمعه, لأنه من عالم يراه مختلفا.. ومتخلفا عن عالمه. عالم جثث تتقاتل.
شغلتني تلكالأسئلة, حد قراري العودة إلى تلك القرية, بحثا عن جواب في تفاصيل ذلك الموتالمركب.

***

ذات صباح , قصدت رفقة زميل تلك القرية. احتطنا طبعا لمفاجآت الطريق, بعدم أخذنا بطاقاتنا المهنية معنا فيما لو وقعنا فيقبضة حاجز أمني مزور, ينصبه الإرهابيون لاصطياد من يضطر لسلوك تلك الطرقاتبالسيارة, ممن يعملون في ” دولة الطاغوت” الكافرة, أي باختصار, أي أحد يملك بطاقةعليها ختم رسمي, ولو كان يعمل زبالا في البلدية, أو أي مخلوق لا تروق له هيئته, فيذبحونه إن لم تكن لهم حاجة به, أو يصطحبونه إلى مخابئهم إن كان ممن يحتاجون إلىخدماته.
كانت ظاهرة الحواجز المزورة عمت وانتشرت, وأصبحت مشابهة تماما لحواجزرجال الأمن الحقيقيين , الذين سطا الإرهابيون على بزاتهم العسكرية وأسلحتهم, مماأوقع الناس في بلبلة وحيرة. فان هم اطمأنوا إلى حاجز, وأظهروا هوياتهم الحقيقية, قديفاجأون به مزورا ويقتلون , كذلك العجوز الذي استبشر خيرا بحاجز أوقفه, وقالللعسكريين بمودة:
واش.. الكلاب ما همش هنا اليوم؟
فرد عليه أحدهم وهو يطلقعليه النار :
إحنا هم الكلاب!
وان هم لم يحملوا أوراقهم الثبوتية خشيةوقوعهم في قبضة حاجز مزور, وكان الحاجز لرجال أمن حقيقيين, اتهموا بأنهم إرهابيون, وعوملوا على هذا الأساس, بعد أن أصبح الإرهابيون أيضا يتنقلون بدون أوراق ثبوتية, مدعين أنهم موظفو دولة.. أو مجندون في الخدمة العسكرية.
وهكذا كان الناس, حفاظاعلى سلامتهم, يتنقلون بلا هوية في جيوبهم, ولا بطاقة عمل ولا أوراق ثبوتية فيحوزتهم, ولا مفكرة تشي بمواعيدهم وأسماء رفاقهم فتفضح مهنتهم.

كان وصولي إلىتلك القرية بسلام, وبدون حادث يستحق الذكر, إنجازا تفاءلت به, لولا أنني لم أجدشيئا مما كنت أبحث عنه هناك.
كانت قلوب الناس موصدة, كبيوت موتاهم.
وكنت هناكتائها, في مهب الأسئلة: كيف أستدل على ذلك البيت, والبيوت جميعها متشابهة فيبؤسها؟
كيف أتعرف على ذلك الجدار الذي كان يستند إليه الطفل , وقد غسلوا الجدرانخوفا من ثرثرتها, في محاولة لغسل ذاكرة القرية من دم أبنائها؟
ومن أسأل عن ذلكالطفل, والأجوبة متناقضة في اقتضابها؟ البعض يقول إن جمعية لرعاية اليتامى تكفلتبه. وآخر يقول إن أحد أقاربه حضر واصطحبه إلى قرية أخرى. وآخر يجزم أن الطفل اختفىملتاعا, بعد أن رآهم يحملون جثة الكلب ويدفنونها في حقل بعيد. وآخر لم يسمع بوجودهذا الطفل. أو لعله لا يريد أن يسمع بوجودي, ولا صبر له على فضولي.
الصدمةتجعلنا نفقد دائما شيئا متأخرا, شيئا يغرقنا في الصمت. لاأحد يثرثر هنا. حتىالجدران التي كانت تهذي بالقتلة, أصابها الخرس, مذ طليت بماء الكلس.

أحزننيأن القرويين الذين كانوا يحتفون بالغرباء أصبحوا يخافونهم. والذين كانوا يتحدثونإليهم, ويتحلقون حولهم في السبعينات أصبحوا يقفون ببلاهة ليتفرجوا عليهم, وكأنهمقادمون إليهم من عالم آخر, حتى انك لا تدري بماذا تكلمهم. لكأن لغتهم ما عادت لغتك, بل هي لغة اخترعها لهم القهر والفقر والحذر. لغة المذهول من أمره مذ اكتشفقدره.
التضاريس هي التي تختار قدرك, عندما في زمن الوحوش البشرية تضعك الجغرافيةعند أقدام الجبال, وعلى مشارف الغابات والأدغال. أنت حتما على مرمى قدر منحتفك.
في عزلتهم عن العالم,أصبحت لسكان تلك القرى النائية ملامح واحدة, يدفنونفيها في اليوم ذاته, اثر غارة ليلية تختفي بعدها من الوجود قريةبأكملها.

انه موت, في عبثيته,مستنسخ من حياتهم الرتيبة , التي يتناولون فيهاكل يوم وجبة واحدة من الطبق الواحد نفسه لكل أفراد العائلة , ويرتادون مقهى واحدا, يدخن فيه الكبار والصغار السجائر الرديئة نفسها المصنوعة محليا من العرعار الجبلي, وعندما يمرضون يذهبون إلى مستوصف ( الدشرة), حيث الطبيب الواحد , والدواء الواحدلكل الأمراض.
وكل جمعة كانوا يلتقون في المسجد الوحيد ليصلوا ويتضرعوا للإلهالواحد. حتى جاءهم القتلة فأفسدوا عليهم وحدانيتهم وقتلوهم باسم رب آخر.
لكأنهممنذ أجيال يكررون الحياة ذاتها, ويموتون حربا بعد أخرى نيابة عن الآخرين, لوجودهمفي المكان الخطأ نفسه.
لكأنهم جاهدوا ضد فرنسا ودفعوا أكبر ضريبة في قسمةالاستشهاد, فقط لتكون لهم بلدية كتب عليها شعار” من الشعب والى الشعب” يرفرف عليهاعلم جزائري, وتتكفل بتوفير قبر لجثثهم المنكل بها بأيد جزائرية. تتركهم خلفك صامدينحتى الموت المقبل, في أكواخهم الحجرية البائسة مع مواشيهم الهزيلة.
هؤلاء الذينلا تكاد تشبههم في شيء, لا صور لأسلافهم وأجدادهم تغطي جدران أكواخهم كما في بيتك, لأنهم منحدرون من سلالة التراب. تود لو ضممت رائحة عرقهم إلى صدرك, لو صافحت بحرارةأيديهم الخشنة المشققة. ولكنهم لا يمدون لك يدا. وحده الموت يمد لك لسانه حيثماوليت وجهك.

أثناء مغادرتي, انتابني حزن لا حد له. فقد فاجأني منظر موجعلغابة كانت على مشارف تلك القرية, وتم بعد زيارتي الأخيرة حرقها حرقا تاما من قبلالسلطات , لإجبار الإرهابيين على مغادرتها, بذريعة حماية المواطنين منالقتلة.
في كل حرب أثناء تصفية حساب بين جيلين من البشر, يموت جيل من الأشجار, في معارك يتجاوز منطقها فهم الغابات.
من يقتل من؟” مذهولا يسأل الشجر. ولا وقتلأحد كي يجيب جبلا أصبح أصلع, مرة لأن فرنسا أحرقت أشجاره حرقا تاما كي لا تتركللمجاهدين من تقية, ومرة لأن الدولة الجزائرية قصفته قصفا جويا شاملا حتى لا تتركللإرهابيين من ملاذ.
باستطاعتنا أن نبكي: حتى الأشجار لم يعد بإمكانها أن تموتواقفة.
ماذا يستطيع الشجر أن يفعل ضد وطن يضمر حريقا لكل من ينتسب إليه؟
وبإمكان البحر أن يضحك: لم يعد العدو يأتينا في البوارج. إنه يولد بيننا فيأدغال الكراهية.

لا أدري لماذا أصابني منظر الأشجار المحروقة على مد البصر, بتلك الكآبة التي تصيبك لحظة تأبين أحلامك.
لكأن شيئا مني مات باغتيال تلكالأشجار. أعادتني جثثها المتفحمة إلى زمن جميل قضى فيه آلاف الشباب من جيلي خدمتهمالعسكرية في بناء ” السد الأخضر“.
سنتان من أعمار الكثيرين ذهبتا في زرع الأشجارلحماية الجزائر من التصحر. كان الشعار الذي يطاردك في كل مكان آنذاك: “الجزائرييتقدم والصحراء تتراجع“.
أكان كل ذلك نكتة؟!
مشتعلين كنا بزمن النفط الأول. وكانت لنا أحلام رمال ذهبية, تسربت من أصابع إلى جيوب الذين كانوا يبتلعون البلادويتقدمون أسرع من لهاث الصحراء.
يا لسراب الشعارات! إنها خدعة التائه بين كثبانوطن من الرمال المتحركة, لا تعول على وتد يدق فيه, ولا على واحة تلوحمنه!

هوذا النصف الخالي.. كيف وصلنا إليه؟ بل كيف اخترقنا الرمل وتسرب إلىكل شيء؟ لم نعد على مشارف الصحراء, بل أصبحت الصحراء فينا. إنه التصحرالعاطفي.
حدث ذلك ذات ديسمبر 1978 عندما ترك لنا بومدين على شاشة التلفزيونابتسامته الغامضة تلك , ورحل.
كانت ملامحه أقل صرامة من العادة, ونظرته الثاقبةأقل حدة, ويده التي تعود أن يمررها على شاربيه وهو يخطب, كانت منهكة لفرط ما حاولترفع الجزائر من مطبّات التاريخ.
لم يقل شيئا. فلم يكن عنده يومها ما يقوله, هوالذي قالوا له في موسكو – التي قصدها للعلاج من مرض نادر وسريع الفتك- إن موته حتميوعاجل. من الواضح أنه عاد كحصان سباق مجروح ليموت بين أهله, وليختبر حبنا له, بعدأن عانى في بداياته من الجفاء العاطفي لشعب كان يفضل عليه طلّة بن بلّة.. وعفويةطيبته.
أصوله الريفية التي أورثته الحياء, وحياته النضالية التي صقلت كبرياءهجعلته يصر على هيبة الموت وحشمته, فمات كبيرا ميتة تشبه غموض شخصيته السريةالمعقدة.
ذات 29 ديسمبر, وبينما العالم يحتفل بأعياد الميلاد, كنا نودع جثمانالرجل الذي ولدت على يده مؤسسات الجزائر وأحلامها الكبرى, الرجل الذي كان لنزاهتهلا يمتلك حتى بيتا, ولا عرفنا له أهلا, أو قريبا. ولكنه ترك لنا أجهزة وصيارفةتربوا تحت برنسه, سيتكلفون بقمع أحلامنا وإفقارنا , ورهن مستقبلنا لعدة أجيال . رحلمودعا بجداول الدموع التي لم يدري أنها ستتحول بعده إلى أنهار دماء.
بكاه الناسكفاجعة تخفي مؤامرة. لكأن موته إشاعة ومرضه مكيدة. فالجزائري تعلم من حكم بومديننفسه ألا يصدق أن ثمة موتا طبيعيا, عندما يتعلق الأمر برجال السياسة.
ولذا رحلمكفنا بالأسئلة, ككل رجالات الجزائر الذين لفقت لهم ميتات وانتحارات وتصفياتانتقامية عابرة للقارات.. وللتاريخ.
في الواقع, ثمة أمران لا يصدقهما الجزائري: الموت بسبب طبيعي, والثراء من مال حلال. فآلية التفكير لدى الجزائري الذي كان شاهداعلى عجائب الحكم, تجعله يعتقد أن كل من مات قتل, وكل من أثرى سرق, وبسبب هذا الريبالجماعي انهار السد الأخضر للثقة, وابتلعتنا كثبان الخيانات.

يحدث أن أحنإلى جزائر السبعينات. كنا في العشرين, وكان العالم لا يتجاوز أفق حينا, لكننا كنانعتقد أن العالم كله كان يحسدنا . فقد كنا نصدر الثورة والأحلام, لأناس مازالوامنبهرين بشعب أعزل ركعت أمامه فرنسا.
العالم كان جهاز تلفزيون يبث صورا بالأسودوالأبيض نتحلق حولها كل مساء, غير مصدقين معجزة ذلك الصندوق العجيب.
ولأننا كناأول من أدخل التلفزيون إلى الحي, كانت الجارات تتقربن إلينا بإرسال طبق من الحلوىعصرا مع أولادهن, كي نسمح لهم بمشاهدة التلفزيون معنا.
كانت لنا أنماط حياةمتداخلة بحكم فرحة الإستقلال التي لمت شملنا, وجعلتنا نتعلم المساكنة دون أن ننعمبالسكينة, في بناية وأصبحت” غنيمة استقلال” بالنسبة للبعض, وضريبة نزاهة وحماقةبالنسبة لأبي, الذي بحكم مسؤوليته عن توزيع الأملاك الشاغرة التي تركها الفرنسيونبعد الإستقلال , أصر على الإقامة في شقة للإيجار غير دار إنه سيقضي قيها ما بقي منعمره, ولن يغادرها إلا بعد ثلاثين سنة إلى قبره, بعد أن تدهورت صحته, بالسرعة التيتدهورت بها حالة البناية, وتعطل به دولاب القدر كما تعطل مصعدها نهائيا بعد السنواتالأولى للإستقلال, ليقضي شيخوخته في لهاث صعود طوابقها الخمسة.
في ذلك الزمنالأول لٌلإستقلال, بينما كان الجيران مشغولين بالتفرج على التلفزيون.. وعلينا, كنتمن الجانب الآخر للشقة, أترقب بصبر مراهق, أن تنفح نافذة تلك السيدة البولونية, التي كانت تسكن مع زوجها الذي حضر مع مئات المهندسين التقنيين من الدول الاشتراكية, للنهوض بـ ” الثورة الصناعية” في الجزائر, جاهلين الثورات الصغيرة الأخرى التيسيحدثونها في حياة الفتيان.. والفتيات.
كانت الجزائر, الخارجة لتوها من الحرب, صبية تقع في حب من جاؤوا من كل العالم لتهنئتها وإدارة شؤونها, وتعرف مغامراتهاالعاطفية الأولى العابرة للقارات والجنسيات واللهجات.. من خلال آلاف قصص الحب التيولدت بينها وبين الفلسطينيين والعراقيين والمصريين واللبنانيين الذين جاؤوا ليعملواأساتذة ومهندسين ومستشارين, والذين وقعوا تحت سطوة اسمها, كما ليقتسموا معها بعضشرف تاريخها, وتقتسم معهم ما فقدت من عروبتها.
بالنسبة لي, جاء الحب بولونيا. بحكم الجغرافية التي وضعت تلك المرأة الشقراء في مرمى بصري, في بناية تطل على شقتنامن الجانب الآخر, ولكن بمسافة تحترم وجاهة ذلك الشارع الذي هندسته فرنسا بما يليقبالمباني الرسمية المجاورة له من فخامة.
شاهدتها ذات صباح ترتدي روب الحمامالأبيض, وتقوم بتجفيف شعرها أمام المرآة. لم يكن يبدو منها شيئا عاريا. ربما لأنهاكانت تدري أن العيون تتجسس عليها. لكنها كانت شهية بشعرها المبلل وحركاتها المغريةعن غير قصد.
يومها اختزنت ذاكرة فتوتي صورتها, لتصبح مع العمر رمزا للغوايةالنسائية التي أصبح من شروطها عندي ألا تبدو المرأة عارية.. وإنما تظل مشروع عريموارب.
كانت, ككل ” الرفيقات” من الكتلة الاشتراكية, مشتعلة بجميع القضايا التيكان يقذفها بركان السبعينات من كل القارات.
وكنت في عمر الاكتشافات الأولى, مشتعلا بها, وبتلك القضايا العالمية الأكبر من أن تحملها نملة بشرية مثلي.
عندما تزوجت بعد ذلك بعدة سنوات, وجدتني أقيم في غرفة نوم. مقابلة لغرفة كانتغرفتها. كثيرا ما تأملت بيتا كان لسنتين مختبر تجاربي الأولى, ومرتعا لجنوني, قبلأن يضعه القدر مقابلا لما سيصبح حياتي الزوجية الفائقة التعقل.. والبرودة.
دوما, ثمة امرأة أولى, تأتيها فتى مرتبكا خجولا, فتتعلم على يدها أن تكون رجلا, ثم أخرىبعد ذلك بسنوات, ستبهرها بما تعلمته, وتختبر فيها سطوة رجولتك.
وحدها زوجتك, علىجسدك أن يكون أبله وغبيا في حضرتها. فإن كنت اكتسبت خبراتك قبلها, ستتحاشىاستعراضها أمامها عن حياء. وإن كنت كسبتها بعد الزواج, ستتفادى استعراضها عن ذكاء. ولذا يتسرب إكسير الشهوة في ما بينكما, وتسقط الأجساد في وهدة التآخي.

كانتأولغا” أول “حفرة نسائية” وقعت فيها. ولم أعد أذكر الآن من قال: “يسقط الرجل فيأول حفرة نسائية تصادفه. فتاريخ الرجل هو تاريخ السقوط.. في الحفر“.
لكنني كثيراما تذكرت ضاحكا قول جدتي أثناء حديثها عن أبي الذي كثيرا ما بذر ثروته في النساءبسبب “فخاخ” تفنن في نصبها له :” من تمسك بأذناب البقر , رمين به فيالحفر!”.

ليست الشهوة, بل اليتم, ما يلقي بفتى في أول حفرة نسائية يصادفها, بحثا عن رحم يحتويه, عساه ينجبه من جديد.
قبل “أولغا” لم تكن تعنيني النساء, بقدر ما كانت تعنيني الحيوانات .. والأشياء.
النساء جميعهن كن يختصرن في جدتيلأبي, المرأة التي احتضنت طفولتي الأولى مذ غادرت سرير أمي رضيع وانتقلت للنوم فيفراشها لعدة سنوات.
على فراشها الأرضي, بدأت مشواري كعابر سرير ستتلقفه الأسرةواحدا بعد الآخر حتى السرير الأخير.

ثمة شيء في طفولتك حدث. وبدون أن تعيذلك , كل سيء سيدور حوله ,إلى آخر لحظة من حياتك.
لأنك لم تناد امرأة يوماأمي” ليست علاقتك مع اللغة وحدها التي ستتضرر, بل كل علاقاتك بالأشياء.
مثلروسو” يمكن أن أختصر حياتي بجملة بدأ بها سيرته الذاتية في كتابه ” اعترافات” : ” مجيئي إلى الحياة كلف أمي حياتها. وكان ذلك بداية ما سأعرفه من مآس“.
منذ يتميالمبكر, وأنا أقيم علاقة أمومة مع ما يحيط بي. أختار لي كل فترة أما حتى اليوم الذيتصدمني فيه الأشياء, وتذكرني أنني لست طفلها.
الأمومة, اكتشفتها, كما عثرأرخميدس على نظريته وهو داخل حمامه. فذلك الوعاء الأبيض الكبير الذي يحتويني فيفضاء مائي كجنين, حدث أن ولّد في داخلي إحساسا غريبا, جعل من مغطس الحمام أمي. فقدكنت أقضي فيه كل وقتي رافضا مغادرته خشية أن يفرغ من مائه, كما أتوقع أن تكون قدفرغت دماء أمي وهي تنزف بي لحظة الولادة.
يحدث للأمومة أن تؤلمني, حتى عندما لاتكون لها قرابة بي, كتلك القطة التي كنت في طفولتي أطعمها, وأحنو عليها, وأجلسها فيحجري وأنا أطالع كتبي المدرسية, ثم أصبحت فجأة شرسة, ترفض أن أحملها أو أمرر يديعليها.
ذات يوم, وقد تركت آثار مخالبها على يدي, نهرتني جدتي, وأمرتني أن أتركهاوشأنها, لأنها حبلى ولا تحب أن يقربها أحد. فبكيت لأنني أدركت أنه في يوم ما سيصبحلها صغارا حقيقيون, وستتخلى عني.
بعد ذلك رأيتها ترضعهم, تلعقهم, تتفقدهم واحداواحدا . وعلى كثرتهم لا تفرط في واحد منهم, وتظل تبحث عنه لتعود به محمولا من عنقهبين فكيها.
اليتم, كالعقم, يجعلك تغار من حيوان, وتطالب الله بحق التساوي بهمادمت أحد مخلوقاته.

أسئلتي الوجودية بدأت مع القطة: كيف تستطيع القطة أنتحمل صغيرها بين أنيابها من دون أن تؤذيه؟ وهل حقا هي تخفي صغارها عن أبيهم الذييحدث عندما يجوع أن يأكلهم؟ وهل الآباء جميعهم قساة وغير مبالين؟ وهل ثمة قطط أكثرأمومة من نساء يحملن أثداء تذر اللبن وتضن بالرحمة؟
بعد ذلك, عندما كبرت, وخبرتيتم الأوطان, كبرت” أسئلة القطة” وأصبحت أكثر وجعا:
هل يمكن لوطن أن يلحقبأبنائه أذى لا يلحقه حيوان بنسله؟ هل الثورات أشرس من القطط في التهامها لأبنائهامن غير جوع؟ وكيف لا تقبل قطة, مهما كثر صغارها, أن يبتعد أحدهم عنها , ولا ترتاححتى ترضعهم وتجمعهم حولها, بينما يرمي وطن أولاد إلى المنافي والشتات غير معنيبأمرهم؟ وهل في طمر أوساخهم تحت التراب, هي أكثر حياء من رجال يعرضون بدون خجل, عاربطونهم المنتفخة بخميرة المال المنهوب؟
لم أبحث لهذه الأسئلة عن جواب, فـالأجوبة عمياء, وحدها الأسئلة ترى“.

 

 

 

الفصل الثالث

باريس ذات أيلول!
كنا فيخريف كأنه شتاء. قررت بدءا أن أنشغل بتبديد الحياة, بخمول من توقف لأول مرة عنالجري, فحلت به متاعب عمر.
الأربعون. وكل ذلك الهدر, تلك الانكسارات , الخسارات, الصداقات التي ما كانت صداقات, الانتصارات التي ماكانت انتصارات, وتلك الشهواتالتي استوت على نار الصبر الخافتة.
كنت أود لو استطعت اختبار طيش الغرباء. فيصباحاتي المتأخرة , أحلم بنساء لا أعرف لهن أسماء, يشجعنك بدون كلام على اقتحامهن, نساء عابرات لضجر عابر. ولكن كيف تعبر ممالك المتعة, وقد سلبك الرعب الهارب منهجواز مرور رجولتك, وعليك أن تعيش بإثم الشهوات غير المحققة.
لكأنني, في كل سرير, كنت أعد حقائبي لأسفار كاذبة نحو صدرها, أتململ في الحزن, بحثا عن حزن أنثوي أرحم, أستقر فيه.

برغم سعادتي بالسفر, كان الحزن حولي يفخخ كل ما يبدو لغيري فرحا, بدءا بتلك الجائزة التي تجعلك تكتشف بسخرية مرة أنك تحتاج إلى أسابيع من مهانةالإجراءات, كي تتمكن من السفر إلى باريس, لاستلام جائزة صورة لا يستغرق وصولهابالإنترنت إلى العالم كله, أكثر من لحظة.
ذلك أن “فيزا الصورة” هي تأشيرةللصورة, لا لصاحبها. وعولمة الصور لا تعني منح البشر حق الأشياء في التنقل!
لاوقت لك لتسأل نفسك ” من الأهم إذن : أنت .. أم صورة التقطتها؟“.
مشغول أنت. مدينة برغبات صاخبة تنتظرك. سلالم معدنية تتلقفك لتقذف بك نحو قاطرات المترو, فتختلط بالعابرين والمسرعين والمشردين, ويحدث وسط الأمواج البشرية, أن ترتطمبموطنك. لا ذاك الذي يكنس شوارع الغربة. أو عاطلا عن الأمل, يتسكع مثيرا للحذروالريبة. إنما وطنا آخر كان مفخرتك, وأجهز القتلة على أحلامه.
بعد ذلك ستعرف أنالجزائر سبقتك إلى باريس, وأن تلك الرصاصة التي صوبها الإرهابيون نحو رأسها, جعلتنزفها يتدفق هنا بعشرات الكتاب والسينمائيين والرسامين والمسرحيين والأطباءوالباحثين, وأن الفوج الجديد من جزائريي الشتات, قام بتأسيس عدة جمعيات لمساندة مابقي في الجزائر من مثقفين على قيد الموت في قبضة الإرهاب.

بعد وصولي بأيامقصدت المركز الثقافي الجزائري تسقطا لأخبار الوطن. ورغبة في الإطلاع على الصحافةالجزائرية التي لا تصل كل عناوينها إلى فرنسا.
كان المبنى على جماله موحشا كضريحشيد لتأبين فاخر للثقافة بذريعة الاحتفاء بها. أو لعله شيد بذريعة وهب الاسترزاقبالعملة الصعبة , للذين في الزمن الصعب كسدت بضاعتهم في دكاكين الوطن.
ماكانتبرودته تشجع على تصفح هموم البلاد. ولم ينقذني يومها من الصقيع, سوى ملصقات كانتتعلن عن نشاطات ثقافية متفرقة في باريس.
اكتفيت بأن أسجل في مفكرتي تاريخ عرضإحدى المسرحيات, وكذلك عنوان الرواق الذي يقام فيه معرض جماعي لرسامينجزائريين.

ماكنت لأظن وأنا أقصد بعد يومين ذلك الرواق يوم الافتتاح, أن كلالأقدار الغريبة ستتضافر لاحقا انطلاقا من ذلك المعرض, لتقلب قدري رأسا علىعقب.
كانت القاعة تستبقيك بدفئها, كوقوفك تحت البرد, أمام عربات القسطل المشويفي شوارع باريس. دفء له رائحة ولون وكلمات, صنعها الرسامون أنفسهم لإحراجك عاطفيا, بفضلهم بين اللوحات بصور المبدعين الذين اغتيلوا , وبوضعهم علما جزائريا صغيرا جوارالدفتر الذهبي, وإرفاقهم دليل اللوحات بكلمة تحثك ألا تساهم في اغتيالهم مرة ثانيةبالنسيان, وإهمال من تركوا خلفهم من يتامى وثكالى.
تشعر برغبة في البكاء. تكادتندم على زيارتك المعرض. أسافرت حتى هنا لتجد كل هذه الصور في انتظارك؟
احتدمالنقاش يومها بين بعض الزوار, حول من يقتل من في الجزائر. كأنهم كانوا ينتظرون أنيلتقوا كي يختلفوا. تعذر علي مجادلتهم. وتعذر على مزاجي غير المهيأ لمزيد من الحزنتجاهل ذلك الكم من الاستفزاز المتراشق به بين الجمل.
لم أطل البقاء. قررت العودةلاحقا في يوم من أيام الأسبوع.

أذكر أنني قضيت عدة أيام قبل أن أقصد ذلكالرواق ذات ظهيرة, لوجودي في محطة مترو غير بعيدة عنه.
كان كل شيء فيه يبدويومها هادئا ومسالما. لا شيء من ضجيج الافتتاح. عدا صخب اللوحات في خبث تآمر صمتهاعليك.
رحت أتجول في ذلك المعرض, عندما استوقفت نظري مجموعة لوحات معروضة تمثلجميعها جسورا مرسومة في ساعات مختلفة من النهار بجاذبية تكرار مربك في تشابهه. كلثلاثة أو أربعة منها للجسر نفسه:
جسر باب القنطرة, أقدم جسور قسنطينة, وجسر سيديراشد بأقواسه الحجرية العالية ذات الأقطار المتفاوتة, وجسر الشلالات مختبئا كصغيربين الوديان. وحده جسر سيدي مسيد, أعلى جسور قسنطينة, كان مرسوما بطريقة مختلفة علىلوحة فريدة تمثل جسرا معلقا من الطرفين بالحبال الحديدية على علو شاهق كأرجوحة فيالسماء.
وقفت طويلا أمام لوحات لها عندي ألفة بصرية, كأنني عرفتها في زمن ما, أوشاركت الفنان في رسمها. كانت على بساطتها محملة بشحنة عاطفية, تنحرف بك إلى ذاتك, حتى لكأنها تخترقك, أو تشطرك.
فكرت, وأنا أتأملها, أن ثمة جسورا , وأخرى تعبرنا, كتلك المدن التي نسكنها, والأخرى التي تسكننا, حسب قول خالد بن طوبال في ” ذاكرةالجسد“.

لا أدري كيف أوصلني التفكير إلى ذلك الكائن الحبري الذي انتحلت اسمهصحافيا لعدة سنوات. وكنت أوقع مقالاتي محتميا به, من رصاص الإرهابيين المتربص بكلقلم, واثقا بأن هذا الرجل لم يوجد يوما في الحياة, كما زعمت مؤلفة تلكالرواية.

الفكرة التي راودتني لفرط حبي لشخصيته, ولتشابهنا في أشياء كثيرة, حتى إنه لم يكن يختلف عني سوى في كونه يكبرني بجيل, وإنه أصبح رساما بعدما فقدذراعه اليسرى في إحدى معارك التحرير, بينما , بدون أن أفقد ذراعي, أصبحت أعيش إعاقةتمنعني من تحريكها بسهولة مذ تلقيت رصاصتين أثناء تصوير تلك المظاهرات.
فكرتبسخرية أنه قد يكون شخص آخر قرأ ذلك الكتاب, وراح هذه المرة يسرق لوحات الرجل, ويرسم تلك الجسور التي كان خالد بن طوبال مولعا بها, مستندا إلى وصفها في تلكالرواية. لكن اللوحات ماكانت تبدو تمرينا في الرسم, بقدر ما هي تمرين على الشفاء منوجع يلمس فيه الرسام بريشته ممكن الألم أكثر من مرة, كما ليدلك عليه.
إنه حتماأحد أبناء الصخرة وعشاقها المسكونين بأوجاعها.

خلقت تلك اللوحات لدي فضولامباغتا في إلحاحه, فقصدت المشرفة على المعرض, أحاول مد حديث معها كي تزودنيبمعلومات عن الرسام.
غير أنها قالت, وهي تدلني على سيدة أربعينية جميلة القوام, ينسدل شعرها الأحمر بتموجات على كتفيها:
ها هي السيدة المكلفة بتلك اللوحات, بإمكانها إمدادك بما تحتاجه من معلومات.
قدمت لي المرأة نفسها بمودة, وبتلكالحرارة التي يتحدث بها الناس إلى بعضهم البعض في فرنسا في مثل هذه المناسبات ذاتالطابع التضامني الإنساني. قالت:

– Bonjour.. Je suis Francoise.. que puis – je pour vous?

لمأكن أعرف بعد ” ماذا تستطيعه هذه المرأة من أجلي“.
فأجبتها:
إني مهتم بهذهاللوحات. أتمنى لو أعرف شيئا عن صاحبها.
ردت السيدة بحماسة:
إنها لزيان, أحد كبار الرسامين الجزائريين.
قلت معتذرا:
سمعت بهذا الاسم.. لكنني معالأسف لم أشاهد أعماله قبل اليوم.
ردت:
أتفهم هذا . إنه ضنين العرض, ومقلالرسم أيضا, ولذا تنفد لوحاته بسرعة. كما ترى, معظم لوحاته بيعت.
قلت, وأنا أقفأمام مجموعة الجسور:
غريب هذا الأثر الذي يتركه في النفس وقع هذا السلماللوني. دورة النور بين لوحة وأخرى تعطيك إحساسا أنك ترافق الجسر في دورة نهاره, معأن الألوان لا تتغير, إنها ذاتها.
قالت:
لأنه تعلم الاختزال اللوني من أيامالحاجة. في البدء لم يكن لديه مال, فاقتصد في الألوان. كان له بالكاد ما يكفيلثلاثة ألوان أو أربعة, فرسم بألوانه جسرا.
واصلت المرأة:
كل الرسامين لهمبدايات متقشفة. بيكاسو في أول هجرته إلى فرنسا رسم لوحات غلب عليها اللون الأزرق, ورأى النقاد سببا واحدا لمرحلته الزرقاء تلك: إن فقر المهاجر الجديد منعه من شراءألوان أخرى وحدد خياره . فان غوغ رسم أكثر من لوحة لحقول الشمس لأنه لم يكن فيحوزته سوى اللون الأصفر.
كنت سأبدي لهذه المرأة إعجابي بثقافتها, لولا أن ذهنيكان مشغولا كليا بذلك الرسام الذي بدأت أتعاطف معه, وأحزن لبؤسه. وكعادتي رحت أفكرفي طريقة تمكنني من مساعدته.
قلت لها:
لا أفهم.. ألا يكون أحد فكر فيمساعدة رسام موهوب كهذا, لا يملك ثمن شراء ألوان للرسم؟
ضحكت السيدة وقالت:
الأمر ليس هكذا.. كنت أحدثك عن بداياته, عن هذه اللوحة التي رسمها قبل أربعين سنةيوم كان يعالج في تونس أثناء حرب التحرير. أشارت بيدها إلى لوحة ” الجسرالمعلق“.
دققت في اللوحة: في أسفلها كتب: تونس 1956 .
شيء ما بدأ يشوش ذهني. فكرة مجنونة عبرتني, ولكنني استبعدتها خشية أن أشكك في قواي العقلية. قلت:
ظننته شابا.. كم عمره إذن؟
إنه ستيني.
وما الذي أوصله إلى هذهالجسور؟
هوسه بقسنطينة طبعا! غالبية هذه اللوحات رسمها منذ 10 سنوات, حدث أنمر بفترة لم يكن يرسم فيها سوى الجسور. هذا بعض ما بقي من ذلك الجنون. معظمها بيعتفي معارض سابقة.
خشيت فجأة, إن أنا واصلت الأسئلة, أن أقع على اكتشافمخيف.
سألتها وكأنني أهرب من مفاجأة لا أدري عواقبها:
وماذا يعرض غير لوحاتالجسور هذه؟
قالت مشيرة إلى لوحة تمثل شباكا بحرية محملة بأحذية بمقاييس وأشكالمختلفة تبدو عتيقة ومنتفخة بالماء المتقاطر منها:
هذه اللوحة . إنها من أحبلوحاته إلي, وأعجب ألا تكون بيعت حتى الآن.
وأمام ما بدا مني من عدم إعجاب بلوحةلم أفهمها, قالت موضحة:
هذه رسمها زيان تخليدا لضحايا مظاهرات 17 أكتوبر 1961 , خرجوا في باريس في مظاهرة مسالمة مع عائلاتهم للمطالبة برفع حظر التجول المفروضعلى الجزائريين, فألقى البوليس بالعشرات منهم موثوقي الأطراف في تهر السين. ماتالكثيرون غرقا, وظلت جثثهم وأحذية بعضهم تطفو على السين لعدة أيام, لكون معظمهم لايعرف السباحة.
قلت وأنا أقاطعها حتى لا أبدو أقل معرفة منها بتاريخي:
أدري.. ما استطاع Papon المسؤول آنذاك عن الأمن في باريس, أن يبعث بهم إلى المحرقةكما فعل مع اليهود قبل ذلك, فأنزل عشرين ألفا من رجاله ليرموا بهم إلى ” السين” . كان البوليس يستوقف الواحد منهم سائلا” محمد.. أتعرف السباحة؟” وغالبا ما يجيبالمسكين “لا” كما لو كان يدفع عنه شبهة. وعندها يكتفي البوليس بدفعه من الجسر نحوالسين” . كان السؤال لمجرد توفير جهد شد أطرافه بربطة عنقه!
واصلت المرأة بنبرةفرحة هذه المرة:
إن جمعية لمناهضة العنصرية استوحت من هذه اللوحة فكرة تخليدهالهذه الجريمة. قامت في آخر ذكرى لمظاهرات 17 أكتوبر بإنزال شباك في نهر السين تحتويعلى أحذية بعدد الضحايا. ثم أخرجت الشباك التي امتلأت أحذيتها المهترئة بالماء, وعرضتها على ضفاف السين للفرجة, تذكيرا بأولئك الغرقى.

فقدت صوتي فجأة أمامتلك اللوحة التي ماعادت مساحة لفظ نزاعات الألوان , بل مساحة لفظ نزاعاتالتاريخ.
شعرت برغبة في أن أضم إلى صدري هذه المرأة التي نصفها فرانسواز, ونصفهافرنسا. أن أقبل شيئا فيها, أن أصفع شيئا فيها, أن أؤلمها, أن أبكيها, ثم أعود إلىذلك الفندق البائس لأبكي وحدي.
أبدأت لحظتها أشتهيها؟
قطعت فرانسواز تفكيري, وفاجأتني معتذرة لارتباطها بموعد, وتركتني أمام تلك اللوحة مشتت الأفكار أتأملهاتغادر القاعة.

في المساء, لم يفارقني إحساس متزايد بالفضول تجاه ذلك الرسام, ولا فارقني منظر تلك اللوحة التي أفضت بي إلى أفكار غريبة, وأفسدت علاقة ود أقمتهامع نهر السين.
حتما, هذا الرسام تعمد رسم ما يتركه الموتى. فالشباك عذابنا لاالجثة.
تعمد أن يضعك أمام أحذية أكثر بؤسا من أصحابها, مهملة كأقدارهم, مثقلةبما علق بها من أوحال الحياة. تلك الأحذية التي تتبلل وتهترئ بفعل الماء, كما تتحللجثة. إنها سيرة حياة الأشياء التي تروي بأسمائها سيرة حياة أصحابها.

قضيتالسهرة متأملا في أقدار أحذية الذين رحلوا, هؤلاء الذين انتعلوها بدون أن يدرواأنهم ينتعلون حذائهم يومها لمشوارهم الأخير. ما توقعوا أن تخونهم أحذيتهم لحظة غرق. طبعا, ما كانت قوارب نجاة, ولكنهم تمسكوا بها كقارب. أحذية من زوج وأخرى من واحدة, مشت مسافات لا أحد يعرف وجهتها, ثم لفظت أنفاسها الأخيرة عندما فارقت أقدامأصحابها. كانوا يومها ثلاثين ألف متظاهر ( وستين ألف فردة حذاء). سيق منهم اثنا عشرألفا إلى المعتقلات والملاعب التي حجزت لإيوائهم. غير أن ” السين” الذي عانى دائمامن علة النسيان, ما عاد يعرف بالتحديد عدد من غرق يومها منهم.

رحت أتصورضفاف السين بعد ليلة غرق فيها كل هؤلاء البؤساء, وتركوا أحذيتهم يتسلى المارةباستنطاقها. فهذه عليها آثار جير وأخرى آثار وحل وثالثة… ماذا ترى كان يعملصاحبها, أدهانا؟ أم بناء؟ أم زبالا؟ أم عاملا في طوابير الأيدي السمر العاملة علىتركيب سيارات “بيجو”؟ فلا مهنة غير هذه كان يمارسها الجزائري آنذاك فيفرنسا.
أحذية كان لأصحابها آمال بسيطة ذهبي مع الفردة الأخرى. فردة ما عادتحذاء, إنها ذلك الأمل الخالي من الرجاء, كصدفة أفرغت ما في جوفها, مرمية علىالشاطئ. ذلك أن المحار لا يصبح أصدافا فارغة من الحياة, إلا عندما يشطر إلى نصفين, ويتبعثر فرادى على الشاطئ.
كان آخر ما توصلت إليه, بعد أرق ذهب بي في كل صوب, أ،أقصد في الغد الرواق لأشتري لوحة الأحذية, كسبا لصداقة فرانسواز, ولأساهم في ذلكالمعرض الخيري بشراء لوحة وجدتني أعشقها.
في الواقع, كان هذا مشروعي العلني. أمامشروعي الآخر فأن ألتقي بفرانسواز مرة أخرى, وأواصل استنطاقها أكثر عن ذلكالرسام.

 

 


عاماً ونصف عام في سرير التشرد الأمني, عشت منقطعا عن العالم, أتنقل بحافة خاصةإلى ثكنة تم تحويلها لأسباب أمنية إلى بيت للصحافة يضم كل المطبوعات الجزائريةباللغتين, لا أغادرها إلا إلى إقامتي الجديدة.
كان مكاناً يصعب تسميته, فما كانبيتاً, ولا نزلاً , ولا زنزانة. كان مسكناً من نوع مستحدث اسمه ” محمية” في شاطئكان منتجعا, وأصبح يتقاسمه ” المحميون” ورجال الأمن. تحتمي فيه من سقف الخوف بسقفالإهانة. فما كانت القضية أن يكون لك سرير وباب يحميك من القتلة, بل أن تكون لككرامة.
في صيف مازافران, أيام الخوف والغبن والذعر اليومي, كنت أدري أنها تقيمبمحاذاتي في بيتها الصيفي, على الشاطئ الملاصق لي, على النصف الآخر من العالمالمناقض لبؤسي, في شاطئ (نادي الصنوبر), حيث توجد محمية بنجوم أكثر, محجوزة فيلاتهالكبار القوم.
وكان في هذا عذاب لم أحسب له حساباً . أنا الذي اختار ذلك المنفىلأحتمي من حبها, أكثر من احتمائي من القتلة, وإذ الأمن العاطفي هو أول مافقدت.

أمن هناك تغذت كراهيتي لها ونما تمردي عليها؟ أن تكون بمحاذاتي, ولكندائما في الجهة الأخرى المناقضة لي, لا شيء يوصلني إليها, هي التي لا يفصلني عنهامطر, ولا شمس, ولا رمل, ولا بحر.. ولا ذعر.

أحيانا كنت أخرج إلى الشرفةأنتظرها بوحشة فنار بحري في ليل ممطر. عسى قوارب الشوق الشتوي تجنح بهاإلي.
أحلم بشهقة المباغتة الجميلة. بارتعاد لوعتها عند اللقاء. باندهاش نظرتها . بضمتها الأولى. كعمر بن أبي ربيعة ” أقلّب طرفي في السماء لعله\ يوافق طرفي طرفهاحين تنظر”. ثم أذهب إلى النوم, ممنيا نفسي بالمطر, عساه يعمدنا على ملة العشق فيغفلة من الموت والقتلة.
مراد الذي قاسمني غرفتي الأمنية بعض الوقت, قبل أن يتحولمن محميّ من السلطة إلى طريدتها. كان يعجب من وقوفي طويلا في الشرفة ويناديني إلىالداخل لأشاطره كأسا وشيئاً من الطرب.
ولكوني ما كنت من مدمني الشرب, ولا منهواة الصخب, كثيرا ما أزعجه اعتذاري, وأساء فهم أعذاري, وخرج إلى الشرفة ليسحبنينحو الداخل قائلاً بتذمر لا يخلو من خفة دم تميزه:
يا راجل واش بيك.. يلعنبوها حياة. واش راك تخمم؟ شوف أنا ما على باليش بالدنيا.. يروحوا كلهميقوّدوا..
كان مراد يمثل نكبة الجزائري مع بحره. يرى بحراً لا يدري كيف يقيم معهعلاقة سليمة. فبين البحر وبينه توجس وريبة وسوء فهم تاريخي. ولذا كنا نسكن مدينةشاطئية جميلة تولي ظهرها للبحر, ويبادلها البحر عدم الاكتراث.
هناك أدركت قولبورخيس ” البحر وحيد كأعمى” .. أو ربما أدركت أنني كنت البحر!

***


عندما هاتفته في الصباح عاتبني لأنه تعب في الحصولعلى رقمي في باريس, ثم بسخريته الجزائرية المحببة إلى قلبي راح يمازحني مدعياً أننينسيته مذ حصلت على جائزة لجيفة كلب بدل أن أصور وسامته التي دوخت الأوربيات, حتىأصبحت سيارة الإسعاف تسير وراءه لإخلاء من يقعن مغمى عليهن.. لدى رؤيته.
– ”
الأمبيلانس” يا خويا وراي.. أنا نمشي وهي تهز في البنات..كيفاش ندير قل لي يرحمباباك؟!
مراد كان يفوت الفرصة على الموت بالاستخفاف به. وربما كان مديناً لوجودهعلى قيد الحياة بمرحه الدائم, ومديناً لجمال يشع منه, باستخفافه أيضاً بالجمال, متجاوزا بذلك عقدة خلقته.
وفي هذا السياق كان يسميني ” الدحدوح” ليذكرني أنوسامتي النسبية لن تغطي على بشاعته. وكانت له في هذا نظرية تستند إلى مقولة المغنيالفرنسي سيرج غاسبور ” إن البشاعة أقوى من الجمال لأنها أبقى”. فبرغم بشاعته حصلغاسبور على فاتنات ما كن في متناول غيره وكأن القبح عندما يتجاوز ضفاف الدمامة, يصبح في فيضه النادر ضرباً من الجمال المثير للغواية.
وكان في الأمر منطق يتجاوزفهمي. قد يشرحه من الطرف الآخر, قول بروست ” لندع النساء الجميلات للرجال الذين لاخيال لهم”. لذا كان مراد يراهن على خيال الإناث, محطماً خجل العوانس والنساءالرصينات بمباغتهن بممازحته الفاضحة.

في أحد لقاءاتي به لاحقاً, ضربت لهموعدا في الرواق, بعد أن أبدى اهتمامه بزيارة معرض زيان. كنا نتجول بين اللوحاتالتي تتقاسم معظمها فكرة الجسور والأبواب العتيقة المواربة, عندما انضمت إلينافرانسواز التي عرّفته بها قبل ذلك. راحت تسأله بتردد, كيف وجد المعرض. وبعد حديثجدي استعرض فيه سعة ثقافته الفنية أضاف فجأة:
كجزائري أفهم وجع زيان, وأدريالمأساة التي تحملها لوحاته, لكني كمتلق أجد في هذه الجسور الممدة وهذه الأبوابالمواربة رمزاً أنثوياً. ولو كان لي أن أختار عنواناً لهذا المعرض لسميتهالنساء“.
وراح أمام عجبنا يشرح فكرته:
الباب الموارب هو الغشاء الذي تقبعخلفه كل أنوثة مغلولة بقيد الانتظار. ما هو مشروع منه ليس سوى تلك الدعوة الأبديةللولوج, أما بعضه المغلق, فذلك هو التمنع الصارخ للإغواء.. لذا لم أعرف للنساءباباً عصياً على الانفتاح. إنها قضية وقت يتواصى بالصبر.

نزل علينا أناوفرانسواز صمت مفاجئ. شعرت بارتباك أنوثتها. كأنما بدأت أبوابها بالانفتاح أمام ذلكالرجل الذي لم تكن توليه اهتماماً في البدء.
لا أدري من أين جاء مراد بذلكالتحليل الفرويدي, فقد اعتاد أن يقحم الجنس في كل شيء. حتى إنه ذات مرة راح يقنعناأثناء مرافعة سياسية دفاعاً عن الديمقراطية, أن الجزائريين ككل العرب ما استطاعواأن ينجزوا من الانتصارات غير تلك الشعارات المذكرة, فدفعوا من أجل فحولة الاستقلالملايين البشر, بينما استخفوا بالشعارات المؤنثة, استخفافهم بنسائهم. ولذا كان هوسمراد في المطالبة بتذكير كلمات ” الديمقراطية” و ” الحرية” عساها تجد طريقها إلىالإنجاز العربي.
عندما حاولت معارضة فكرته, متحججاً بانتماء زيان لجيل لا يرىالأمور بهذه الطريقة, قال:
الإبداع وليد أحاسيس ودوافع لا شعورية وأنت لن تدريأبداً, مهما اجتهدت, ماذا كان يعني مبدع بلوحة رسمها أو بقصيدة نظمها.
قلت:
إن كنت تعرف حياة المبدع, تدرك ما أراد إيصاله إليك. حياته هي المفتاح السريلأعماله.
عندما اشتد بنا النقاش قال متهكماً:
بربك, كيف تحارب الذين يمنعونعنك حرية الرأي إن كنت ترفض عدم تطابقي معك في تفسير لوحة؟ ” الحقيقة في الفن هيالتي يكون نقيضها حقيقة كذلك“.

أكثر من قناعتي برأيه, كنت على قناعة بضرورةإبعاد هذا الرجل عن فرانسواز, حتى لا يفسد علي ما كنت أخطط له منذ شهر, خاصة أنهبعد ذلك عندما جلسنا في المقهى, راح بمزاح لا يخلو من الجدية يوضح لي ما يعتقدهشبهاً بين نوعية الأبواب, وما يقابلها من أجناس النساء. فهو يرى الأوربيات مثلا, كالأبواب الزجاجية للمحلات العصرية التي تنفتح حال اقترابك منها, بينما تشهرالعربيات في وجهك وقارهن كأبواب خشبية سميكة لمجرد إيهامك أنهن منيعات ومحصنات. وثمة من , حتى لا تستسهلهن,يتبعن بطء الأبواب اللولبية الزجاجية للفنادق التي تدوربك دورة كاملة كي تجتاز عتبة كان يمكن أن تجتازها بخطوة! وأخريات يحتمين بباب عصريمصفح, كثير الأقفال والألسنة, ولكنهن يتركن لك المفتاح تحت دواسة الباب.. كما عنغير قصد.
كان الأمر بالنسبة إليه قضية صبر لا أكثر. لكنه كان يكره مهانةالانتظار خلف باب موصد. كان يحتكم إلى حاسة الفراسة ليعرف نوعية المرأة التي أمامه, وإلى خبرة اللصوص في اكتشاف أي نوع من الأبواب عليه أن يتحدى استعصاءه! وكنت علىفرحي بوجوده معي, وحاجتي إلى ما أدخله إلى حياتي من حركة, قررت أن أجعل لقاءاتنامتباعدة, تفادياً لمناوراته الفحولية التي بدأت تحوم حول فرانسواز.

في صباحاليوم التالي, قصدت الرواق بحثاً عن فرانسواز, كما لأتأكد من أنها ما زالت على ذلكالقدر من اشتهائها إياي.
لم أكن يوماً رجلاً للمغامرات العابرة. ولا كان يروق ليالنوم في شراشف المصادفة. ولكن فرانسواز كانت تعنيني لسبب, وأصبحت تعنينيلسببين.
قد أكون تعلقت بها لحطة شرود عاطفي من أجل رجل, هي المعبر الإجباري لأيطريق يوصل إليه. لكنني الآن أريدها بسبب رجل آخر قررت ألا أدعه يأخذها مني. فقطلأنه يمتلك جسارة ليست من طبعي.

***


كان في حوزتي ذرائع جميلة تعفيني من الإحساسبالذنب, إن أنا استسلمت لعروضها المواربة.
في الواقع لم يكن لي مفر من تلكالنوايا الخبيثة لأسئلة بريئة, تطرحها عليك امرأة تضمر لك متعة شاهقة.. أو هكذاتستنتج من كلامها.
فرانسواز فتحت بجملة واحدة بوابة الشهوات الجهنمية, وتركتنيمذهولاً لا أدري كيف أوقف سيل الحمم. أبمقاومتها, أم بالاستسلام لها؟
فأمام أيخيار من الخيارين كان احتمال ندمي قائماً.
لتنجو من أسئلتك, عليك في الجنس أنتتغابى أحياناً, حتى لا تتنبه إلى كونك تذهب نحو المتعة, لأنك تحتاج إلى خيبة صغيرةتلهيك عن خيبات أكبر.
ولذا أنت تحتاج إلى أكاذيب الجسد, إلى غبائه وفسقهوتناسيه, كي تقصد النزوات المسروقة من دون شعور بالذنب.
أنت في حاجة إلى الإذعانللمتعة التي تهيئك للألم, وللألم اللذيذ المخدر الذي يهيئك للموت, مستندا إلى قولعنيف للمركيز دي ساد ” لا طريق لمعرفة الموت أفضل من ربطه بمخيلة فاسقة“.
وأنتستحتاج حتما إلى تلك المخيلة, لتوقظ صخب حواس ذكورية تعودت الاستكانة قهراً. تحتاجأن تضرم النار في رغبات مؤجلة دوماً. أنت المسكون بنزوات الذين يذهبون كل صباح نحوموتهم, يستعدون لمواجهة الموت بالصلاة حيناً, وبالآثام الأخيرة أحياناًأخرى.

غير أن قبولي دعوة فرانسواز لقضاء ” وقت ممتع” كان يحمل فرحةمشوبة بذعر لم أعرفه من قبل, خشية أن تخونني فحولتي عند اللقاء. حتى إنني, قبل ذلكبليلة, تذكرت مغنية أوبرا شاهدتها تقول في مقابلة تلفزيونية إنها في الليلة التيتسبق حفلاتها تعيش كابوساً مزعجاً ترى فيه نفسها تقف على المسرح وقد فقدت صوتها, مما يجعلها تستيقظ مذعورة كل مرة, وتجلس في سريرها لتجرب صوتها إلى أقصاه, كي تطمئنإلى قوته, ثم تخلد إلى النوم.
تراني بلغت عمر الذعر الذكوري, وذلك الخوف المرضيمن فقدان مباغت للفحولة, في تلك اللحظة الأكثر احتياجاً لها, أمام الشخص الذي تريدإدهاشه بالذات؟ أكل رجل هو مغني أوبرا مذعور, لا يدري لفرط صمت أعضائه كيف يختبرصوت رجولته!

فرانسواز وجدت في تمنعي وعدم استعجالي الانفراد بها, شيئاًمغرياً ومثيراً للتحدي الأنثوي الصامت, ومثيراً أيضاً للاحترام. خاصة بعدما اعتذرتعن قبول عرضها الذي أظنه كان نابعاً من طيبتها في استضافتي بعض الوقت في بيتها, لتوفر علي مصاريف الإقامة المكلفة. قالت مثبتة حسن نواياها:
عندي غرفة إضافيةيحدث أن يقيم فيها لبعض الوقت الأصدقاء العابرون لباريس, ومعظمهم من معارف زيان. آخر من شغلها زوجة مدير معهد الفنون الجميلة في الجزائر التي اغتيل زوجها وابنهاداخل المعهد. كانت فكرة هذا المعرض لدعم عائلات المبدعين من ضحايا الإرهاب بمبادرةمنها, ولهذا ارتأيت أن أستقبلها في بيتي لحاجتها إلى دعم نفسي كبير بعد هذهالمحنة.
لم تكن فرانسواز تدري أنها قالت العبارة التي كانت تكفي لإقناعي بأي شيءتعرضه علي بعد الآن.
سألتها مندهشاً:
وهل زيان يقيم في بيتك؟
أجابتضاحكة:
أجل , وإن شئت أنا من يقيم في بيته. فعندما عاد إلى الجزائر ترك ليالبيت لفترة طويلة, ثم عرضت عليه بعد ذلك أن أتقاسم معه الإيجار. لقد كان الأمريناسبني تماما. يدفع نصف إيجار البيت مقابل أن يشغله أحياناً عندما يزور باريس. إنني محظوظة حقاً. فهذا البيت جميل, ولم يعد بإمكانك العثور بسعر معقول على شقةكهذه تطل على نهر السين!
لم أعد أصدق ما أسمع. سألتها:
وهل الشقة تطل علىجسر ميرابو؟
ردت متعجبة:
هل زرتها؟
كنت سأبدو مجنوناً لو أخبرتها أننيسبق أن زرتها في رواية.
فأجبت بهدوء كاذب:
لا .. قلت هذا لأنني أحب هذاالجسر, وتمنيت لو كان الأمر كذلك.
إنه فعلاً كذلك.. ولذا بإمكانك أن تزورالشقة كلما شعرت برغبة في رؤية ذلك الجسر.
سألتها فجأة مجازفاً بكبريائي:
أما زال عرضك قائما باستضافتي لبعض الوقت في بيتك؟
طبعاً..
ثم واصلت:

– Oh.. mon Dieu.. comme tu me rappelles
Ziane c’est fou.. tout ca pour un pont!

طبعا.. كانت على خطأ. لم يكن ” كل هذا بسبب جسر”. وربماكانت في خطئها على صواب, مادامت قد صاحت ” يا إلهي كم تذكرني بزيان“.
ذلك أن هذاالجسر ماكان بالنسبة لكلينا مجرد… جسر.
أضافت:
بالمناسبة.. سيكون افتتاحمعرض زيان بعد يومين. أتمنى أن أراك هناك.
أجبتها وأنا أفكر في كل ما ينتظرني منمفاجآت بعد الآن:
حتماً.. سأحضر.

 

 

 

الفصل الرابع

برغم درايتي بعدم حضوره, ذهبتلحضور افتتاح معرضه الفردي, فقد كان في الأمر ما يغريني بإستهلاك احتياطي الحزنالذي أحتفظ به لحدث كهذا.
لا أظن مرضه هو الذي أفسد عليّ لقاءنا الأول. الأمر لايعدو احتفاظ الرسام بحقه في أن يخلف موعداً, حتى لو كان حفل زفافلوحاته.
فرانسواز قالت أنه يكره حضور يوم افتتاح معرض له, لأنه بضوضائه وأضوائهيوم للغرباء. ما عاد له من صبر على ملاطفة ومسايرة من يحرصون على حضور شعائرالافتتاح, أكثر من حرصهم على تأمل أعمال أخذ بعضها أعواماً من عمر الرسام. بل أنهحدث في أحد معارضه, أن طلب منها أن تتولى مع إدارة الرواق أمر تعليق اللوحاتواختيار أماكنها على الجدران, لأنه يكره أن يعلق لوحاته, حتى يمكنه زيارة نفسه بعدذلك كغريب.
هو الهارب الأبدي, لا ملاذ له سوى البياض.
كان له ما أراد. أيكونتمارض كي يجد ذريعةً للإنسحاب المتعالي.. فسقط في براثن المرض الحقيقي؟

فيغياب الرسام, كل شيء يأخذ لونه الأول. تخفت البهجة المظللة لفراشات الضوء وأناسإمتهنوا طقوس الإفتتاحات. ينتابك شعور بالفقدان, بإفتقاد شيء لم تمتلكه بعد. يجتاحكالأسى من أجل رجل لن تراه, يحجبك عنه حضوره في غيابه المريع.. غيابه الرائع.
رجلستدرك لاحقاً, أنه يكره أن يساء فهم حضوره, أن يساء تفسير كلامه. ذلك أنالرساميين لا يجيدون فن الكلام. إنهم موسيقيون صامتون كل الوقت“.
وهو هنا, كبيانو أسود مركون مغلقاً على صمته, في صالة تضج بلوحاته, ازدحمت بغيابه الصاخب, مبعثراً, متناثراً, متدفقاً على الجدران, كغيوم نفسه المنهطلة على الزوار.
لاتملك إلا أن تتعاطف معه, وهو يواجه الخسائر بفرشاة. ذلك أن هذا المعرض في فن بعثرةالحزن على الجسور والأبواب التي تصهل بها اللوحات, ليس سوى إعادة اعتبار للخساراتالجميلة.
عندما غادرت ذلك المعرض , فكرة واحدة كانت تزداد رسوخاً داخلي: أنأطارد طيف هذا الرجل حتى بيت فرانسواز, كي أواصل تباعاً لملمة سره, هو الذي يتقنأيضاً فن بعثرة الغياب.

***


تماماً, كما لو كنت بطلاً في رواية, غادرت الفندقالصغير الذي كنت أقيم فيه منذ ما يقارب الشهر, وأعددت حقيبتي لسفر مفاجئ نحو بيتكنت أظنه ليس موجوداً إلا في كتاب!
متعاقد أنا مع الجسور, مع مدن يشطرها جسر, معنساء حيث أحل يكنّ على أهبة عبور.
بذرائع العشاق, أذهب على خيول الشك الهزيلة, صوب بيت هو بيته. أقيم مستوطنة غير شرعية, فوق ذاكرة الآخرين, حيث التقى هذا الرسامحتماً مع تلك الكاتبة.

كيف ترصد ذبذبات بيت تدخله كما تدخل معتقلاً للكآبةالجميلة.
تفاجئك ألفة الأمكنة, فتستأنف حياة بدأتها في كتاب. كأنك موجودلاستئناف حياة الآخرين.
تدخله كبطل في رواية. تفتحه كما تفتح كتاباً مكتوباً علىطريقة برايل, متلمساً كل شيء فيه, لتتأكد من أن الأشياء حقيقية, أو بالأحرى لتتأكدأنك تعيش لحظة حقيقية, ولست هنا لمواصلة التماهي مع بطل وهمي. أشياء تومي لك أنكتعرفها وهي ليست كذلك . لحظات تتوهم أنك عشتها وهي ليست كذلك.
وكنت تظن أنالحياة تلفقك كتاباً, فإذا بكتاب يلفق لك حياة. فأيهما فيك الأحزن: القارئ الذيانطلت عليه خدعة الرواية؟ أم العاشق الذي انطلت عليه خديعة مؤلفتها؟
ولماذا أنتسعيد إذن؟ ما دمت بفرح غريب تفعل الأشياء الأكثر ألماً, تعاشر جثة حب, تضاجع رممالأشياء الفاضحة, باحثاً في التفاصيل المهملة عما يشي بخيانة من أحببت.
أهيمعابثة للذاكرة؟ أم تذاكٍ على الأدب؟ أم .. حاجتك أن تغار؟ كحاجتك إلى النوم علىأسرة علقت بشراشفها رائحة رجال سبقوك, كحاجتك إلى الأغطية الخفيفة, للهاث امرأةاستعادت أنفاسها على صدر غيرك, كحاجتك إلى البكاء على وسادة تنام عليها وحيداً, وكانت وسادة لرأسين.
لا أسوأ من غيرة عاجزة. غيرة متأخرة لا تستطيع حيالهاشيئاً.

لا أدري متى أصبت بكآبة المخدوعين, وقررت التوقف عن التفتيش في ذلكالبيت عن شيء, بعد أن حاولت كثيراً, على طريقة “شارلوك هولمز” أن أفك شيفرة ذلكالكتاب, مقارناً تفاصيله بموجودات الكتاب.
بحثت طويلاً عن شفاء الأشياء كي أقيممعها حواراً استنطاقياً بحثاً عن احتمالات لقاء, عن احتمالات خلاف, عن متع قد تكوناختلست في مكان ما.
كما أمام ” العلبة السوداء” لطائرة سقطت, كنت أريد أن أعرفآخر كلمة قالها العشاق قبل حدوث الكارثة. من أي علو هوى ذلك الحب؟ في أي مكانبالذات؟ في أي غرفة تبعثرت شظايا المحبين؟ وهل نجا من تلك الكارثة العشقية غير ذلكالكتاب؟

فرانسواز وضعتني, بكثير من الاحتفاء, في الغرفة المجاورة لغرفتها, موضحة أنها الغرفة التي كان يشغلها زيان كمرسم. ثم أضافت بلهجة مازحة:
أنتمحظوظ: بإمكانك أن تفرد أشياءك. قل شهرين كانت اللوحات في كل مكان , حتى هذا السريرلم يكن صالحاً للاستعمال.
سألتها متعجباً:
وماذا فعلتما بها؟
شاركزيان ببعضها في المعرض الجماعي الخيري, ويعرض ما بقي في حوزته من لوحات في معرضهالفردي الحالي الذي يذهب نصف ريعه للجمعية الخيرية نفسها. حاولت عبثاً إقناعهبإبقاء بعضها. إنه دائماً متطرف. أحياناً كان يرفض لسنوات بيع لوحة واحدة, وهذهالمرة رفض أن يبقي على واحدة منها. تصور.. لم تبق سوى اللوحات المعلقة على الجدران, ولو لم يكن أهداني إياها لعرضها للبيع. لعله المرض. أظنه أراد أن يتخلص منها وهوعلى قيد الحياة, ووجد لوحة لمن لا يعنيه سوى أن يعلقها على حائط زهوه. كان يردد قولرسام آخر ” أنت لا تفقد لوحة عندما تبيعها بل عندما يمتلكها من لن يعلقها على جدرانقلبه بل على حائط بيته قصد أن يراها الآخرون“.
ربما خوفه من أن يقع في يد هؤلاء, هو الذي جعله يعرضها جميعها للبيع, لأنه واثق من أن الذين سيشترون لوحاته, أواللوحات المعروضة لكل هؤلاء الرسامين الجزائريين,المعروفين منهم والجدد, هم حتماًأناس بقلب كبير رغم الإمكانات القليلة لبعضهم.

كانت فرانسواز تحتفظ في غرفةنومها باللوحة التي رسمها لها زيان سنة 1987 عندما تعرف عليها أول مرة كموديل فيمعهد الفنون الجميلة.
على عريها, كانت الرسمة لا تخلو من مسحة حياء تعود حتماًلريشة زيان, لا لامرأة كانت تحترف التعري, وتغطي جدران غرفة نومها بأكثر من لوحةتحمل تواقيع فنانين آخرين.
بدت لي فرانسواز امرأة لا يملها رسام. لكأنها أنثىلكل فرشاة. لفرط اختلاف شخصيتها بين لوحة وأخرى, كنت تشعر معها وكأنك تسلم نفسك إلىقبيلة من النساء.
رغم ذلك لم يكن في الأمر ما يغريبني, ولا كانت لي رغبة أن أدخلفي تحد مع الرجال الذين سبقوني إليها. فقد كنت على جوعي الجسدي, رجلاً انتقائياً فيحرماني كما في متعتي, أنا المولع بانحسار الثوب على جسد متوهم, ما وجدت في جسدهاالمكشوف مكمن فتنتي.
كنت أريد امرأة كـ ” فينوس” في انزلاق نصف ثوبها. أكسونصفها, أو أعري نصفها الآخر حسب رغبتي. امرأة نصفها طاهر ونصفها عاهر, أتكفل بإصلاحأو إفساد أحد نصفيها. فبكل نصف فيها كنت أقيس رجولتي.

فرانسواز بهذاالمقياس, كانت اختباراً سيئاً للرجولة. كانت امرأة بفصلين يعاشر أحدهما الآخرأمامك: ربيع شعرها المحمر, وخريف شفتيها الشاحبتين. وكانت مشكلتي الأولى ثغرها: كيفأضاجع امرأة لا تغريني شفتاها الرفيعتان بتقبيلهما؟
كنت أجد شجاعتي في مواجهةشفتيها بالتفكير في زيان, الذي حتماً سبقني إلى ذلك. أخاله مثلي كان يعاشرفرانسواز, مستحضراً حياة. فهل اكتشف قبلي أن زيف القبلة أكثر بؤساً من زيفالمضاجعة؟!
حتماً, كان السرير في ذلك الموعد الأول مزدحماً بأشباح من سبقونيإليه, ووحدي كنت أشعر بذلك محاولاً استنطاق ذاكرته.
أسرّة تراكمت فيها الخطايا, تتوقع منها خرق قاعدة الكتمان. أحقاً تريد لذلك ” المخدع” أن يكسر قانون الصمت.. وينطق؟
صمت الأسرّة إحدى نعم الله علينا, ما دمنا, حيث حللنا, جميعنا عابريسرير.
أدري ارتباك جسدين يلتقيان لأول مرة, ولم يبتكرا لغتهما المشتركة بعد. لكنكان واضحاً أننا ما كنا نملك الأبجدية نفسها للتحاور.
كنت أكره امرأة تصرخ لحظةالحب. ففي كل صراخ مراوغة لا تخلو من نوايا الغش النسائي. كنت لا أعرف للمتعة إلااحتمالين: أن تبكي امرأة, أو يغمى عليها. فلا متعة دون بلوغ وعي الإغماء. كطائرمحلق فارد جناحيه ولا يسمع لتحليقه خفقاً. المتعة حالة غيبوبة شاهقة الصمت.
كانتفرانسواز لا تعرف صمت كائنين لحظة توحد. كانت تموء كقطة, تنتفض كسمكة, تتلوى كأفعى, وكلبوءة تختبر ذلك العصيان الشرس في مواجهة الذكورة. كانت كل إناث الكائنات. وكنترجلاً لا يدري كيف يتدبر لجاماً لتلك المهرة الجامحة.

كان للحب مع فرانسوازمذاق الفاكهة المجففة. وكنت أحتاج فجأة إلى وحدتي, حاجة رجل مهموم إلى تدخين سيجارةفي الفناء.
انتهى الحب. وها أنا أرتعد عارياً كجذع شجرة جرداء.
لا أكثر كآبةمن فعل حب لا حب فيه, بعده تعتريك رغبة ملحة في البكاء. إنها خيانتك الأولى لامرأةقد تكون خانتك منذ ذلك الحين كثيراً. وأنت لست حزيناً من أجلها.. بل من أجلك. بعدتلك المتعة, تشعر فجأة بالخواء, ينقصك شيء ما, لا تدري ما هو.
كنت تظن أنكبنزوتك الأولى تلك, ستمحو, كما بإسفنجة, آثار ما علق بك من زرقة الألم. ولكن, كمالو كنت تمرر إسفنجة لتنظيف سبورة من الطباشير, إذا بك تزيد اللوح ضبابيةوتلوثاً.
أليست هي التي قالت مرة أثناء حديثها عن معاشرة زوجها مكرهة:” لا بد أنتوضع على أبواب غرف النوم ” ممنوع التلويث” كما توضع في بعض الأماكن شارات لمنعالتدخين.. ذلك أننا نلوث دائماً بمن لا نحب“.
لماذا مارست الحب إذن؟ ولماذا كنتعلى عجل؟ ألانك لفرط ما عاشرت جسدك مكتفيا بمتعته السرية, لم تعد تعرف التعامل معجسد غيره؟

أذكر ذلك الصديق الذي قضى في سجن عربي ستة عشر عاماً بتهمةالانتماء إلى حزب محظور, تزوج في الأعوام الأخيرة, من محامية أحبته وانتظرتهطويلاً. كم من الأعوام قضيا يمنيان النفس بلقاء حميمي جميل, لا يكون فيه للحارس حقالتلصص على وشوشة متعتهما!
وذات يوم أطلق سراح الرجل. هكذا , فجأة, ذات عيدقرروا أن يهدوه الحرية. ألقوا به أمام السجن مع صرة تضم بؤس متاعه. وما كان يدريأنه في تلك الأقبية الرطبة قد فقد وإلى الأبد عنفوان فحولته, إلا عندما احتضن بولعالسجين العاشق, تلك المرأة التي حلم بها طويلاً.
أثناء تحسسه لجسد الحرية, ارتطمبعنة عبوديته, مكتشفاً أنه ما عاد قادراً على معاشرة أحلامٍ لا تمت إلى جسدهبصلة!
منذ مدة سمعت بخبر انفصالهما, بعد أن أخفقت الحياة في ترميم ما ألحقتهالمعتقلات العربية من عطب بحبهما.

أثناء هدر عمرك في الوفاء, عليك أن تتوقعأن يغدر بك الجسد, وأنت تتنكر لك أعضاؤه. فوفاؤك لجسد آخر ما هو إلا خيانة فاضحةلجسدك.
بغروب آخر يوم في خريف القلب, ندخل في سباتٍ طويل لشتاءٍ عاطفي, مقتاتينبدسم الذكرى ومجزون الأمل الذي ما فتئنا كحيوانات القطب الشمالي نجمعه تحسباًلمواسم البؤس الجليدية.
ذات جليد.. لن يسعفك اختباؤك تحت الفرو السميكللأمنيات.
رويداً.. يضمحل قلبك العاطل عن الحب. تتقلص فحولتك العاطلة من التمتعوالإمتاع, وإذا كل عضو فيك لم تستعمله, قد اضمحل.
تدري أنك مدين في الماضي للحبوحده بإنجازاتك الفحولية الخارقة, لكن زمن العشق ولى.
خيباتك السابقة علمتكالاحتراس من حب يؤسس نفسه على كلمة ” إلى الأبد”. حب بعد آخر, مات وهمك بحب حدالموت, حب حتى الموت.
كل مأساتك الآن تدور حول هذا الاكتشاف!

***


في اليوم التالي, قصدت السوق المجاور لملء البرادوالتبضع بالمواد الغذائية, فلم يكن بإمكاني الإقامة في بيت, بدون الإنفاق عليه.
كنت أتجول مكتشفاً مساحيق فرح نهايات الأسبوع على وجه باريس المرتجفة برداً, عندما استوقفني محل جزار يزين خطاطيفه الحديدية برؤوس الخنازير الوردية المعلقة, حاملة بين أسنانها قرنفلة ورقية حمراء.
بقيت للحظة أتأملها, متسائلاً أهي إهانةللقرنفل أن يوضع في فم خنزير؟ أم الإهانة أن يتحول رأس كائن حياً إلى مزهرية لدىجزار؟

أعادني المشهد إلى السبعينات, يوم كان جيراننا الأوربيون الآتون منأوربا الشرقية, لا ينفكون يخططون بحماسة ولهفة, لنهايات الأسابيع التي يذهبون فيهازرافات لاصطياد الخنازير البرية في الغابات المنتشرة على مشارف العاصمة.
اليوم, لا أحد يجرؤ على القيام بجولة صيد, مذ أصبح القتلة ينزلون مدججين بالسواطير والفؤوسوأدوات قطع الرؤوس, ليصطادوا ضحاياهم من البشر من بين القرويين العزّل, ويرحلونتاركين للخنازير البرية مهمة قطع أرزاق من بقي على قيد الحياة, بإفساد وإتلافمحاصيلهم
كان اصطياد رأس خنزير ومطاردته في الغابات, يأخذ من الصيادين آنذاكوقتاً وجهداً أكثر مما يأخذه اليوم قطع رؤوس عائلة بأكملها من القرويين الذين يعرفالقتلة تماماً مواقع أكواخهم ولا يجدون صعوبة في ذبحهم كالنعاج.
وكانت العودةبرأس خنزير واحد, تملأ الصيادين الأوربيين آنذاك زهواً. لكن صيادي الطرائد البشريةيلزمهم كثير من الرؤوس كي يضمنوا فرحة وجودهم على الصفحات الأولى للجرائد, فهميشترون برؤوس الآخرين صدارة خبر تتناقله وكالات الأنباء.
هكذا ولدت ظاهرة الرؤوسالبشرية المعروضة للإشهار أ, للاستثمار, وأخرى للفرجة أو للعبرة, كتلك التي حدثلأمراء الموت عندما وجدوا متسعاً من الوقت, أن زينوا بها أشجار القرية كما أشجارأعياد الميلاد, وفخخوها لتكون جاهزة لتنفجر في أول من يحاول “قطف” رأسقريبه.

في حرب “الرؤوس الكبيرة” التي بسقوطها يسقط وطن في مطب التاريخ, وتلكالصغيرة التي يلزم منها الكثير لتصنع خبراً في جريدة, وتلك النكرة التي لن يسمعبقطافها أحد, لا تستطيع إلا أن تتحسس رأسك, حتى وأنت أمام واجهة جزار في باريس. وتحزن من أجل القرنفل البلدي, الذي كان يتفتح في طفولتك, باقات من القرنفلاتالصغيرة, بذلك الشذى الذي ما عدت تشتمه في الورود, مذ قصفت أعمارها إكراماً لقصابيالعالم المتحضر.
في مدينة كان هنري ميلر يتجول فيها جائعاً, وفي حالةانتصاب,متنقلاً وسط حدائق” , التويلري” غير مبصر سوى أجساد نسائية من رخام, عساهاتغادر عريها الرخامي وترافقه إلى فندق تشرده, لم أكن أنا سوى الرؤوس المعلقة في أيمكان, لأي سبب كان.
حتى مومسات (بيغال) المنتشرات على أرصفة الليل, في هيئة لايصمد أمام غواية التلصص على عريهن رجل, لم أستطع وأنا أعبر شارعهن أن أقيم معأجسادهن العارية تحت معاطف الفرو, أية علاقة فضول. فقد كن يذكرنني بمشهد آخر تناقلتتفاصيله الصحافة العالمية لمومسات البؤس العربي. مشهد لو رآه زوربا لأجهش راقصاً, لنساء علقت رؤوسهن على أبواب بيوتهن البائسة في مدينة عربية, لا تخرج من حرب إلالتبتكر لرجالها أخرى. وريثما يكبر الجيل الآتي من الشهداء, كانت تفرغ البيوت منرجالها, ومن أثاثها, ومن لقمة عيشها, لتسكنها أرامل الحروب وأيتامها.
لكن لاتهتم , زوربا.. يا صديق الأرامل لا تحزن. الجميلات الصغيرات لا يترملن. إنهن يزينقصور سادة الحروب العربية. وحدهن البائسات الفقيرات يمتن غسلاً لشرف الوطن, كما ماتأزواجهن فداءً له. وبإمكان رؤوسهن الخمسين التي قطعت بمباركة ماجدات فاضلات يمثلنالاتحاد النسائي, بإمكانها أن تبقى معلقة على الأبواب يوماً كاملاً تأكيداً لطهارةاليد التي قطعتها, كي يعتبر بها الفقراء الذين جازفوا بقبول مذلة ” المتعة مقابلالغذاء”, وتجرأوا على تمني شيئاً آخر في هذه الدنيا غير إضافة جماجمهم لتزيين كعكةعيد ميلاد القائد.
يخطئ من يعتقد أننا عندما ندخل مدناً جديدة نترك ذاكرتنا فيالمطار. كلً حيث يذهب, يقصد مدينة محملاً بأخرى, ويقيم مع آخرين في مدن لا يتقاسمهابالضرورة معهم, ويتجول في خراب وحده يراه.
وما دمت خربت بيتك في هذا الركنالصغير من العالم فسيلاحقك الخراب أينما حللت”. ولكنك لم تكن قد سمعت بعد بقول ذلكالشاعر, ولا كنت تظن أن حقيبتك محملة بهذا الكم من الجماجم. و إلا ما كنتسافرت.
فاكتب إذن, أنت الذي مازلت لا تدري بعد إن كانت الكتابة فعل تستر أم فعلانفضاح, إذا كانت فعل قتل أو فعل انبعاث.
تتمنى لو أطلقت النار على كل الطغاةبجملة, لكن من تنازل أيها الكاتب بقلم, في نزال كل غرمائك فيه يتربعون على عروش منالجماجم.

كان عليك قبل أن تهجم على الأوراق أن تختار كلماتك بعناية ملاكم , أن تصوب ضرباتك إلى القتلة, بأدنى قدر ممكن من المجازفة. أن تكتسب تلك الموهبة. موهبة كتابة كتب غيبية, تسعى إلى سلامة صاحبها وراءته, غير معني بما تسببه روايةرديئة من أضرار, ولا جبن كاتب لا يمكن لقارئ أن يأتمنه على حياته أو يوصيه ثأراًلدمه.
من تكون.. لتحاول الثأر لكل الدم العربي بكتاب. وحده الحبر شبهة أيهاالجالس على الشبهات. أكتب لتنظيف مرآبك من خردة العمر, كما ينظف محارب سلاحاًقديماً.
مازال للقتلة متسع من الجاه.ولا وقت لك إلا ساعته, تدق بعده في معصمك.. تمد يدك بما يلزمها من القوة للكتابة.
وبرغم هذا, قد لا تجد الشجاعة لتقص عليهما حل بتلك اللوحة!

بعد يومين من إقامتي عند فرانسواز, هاتفت مراد حتى لايقيم الدنيا ويقعدها بحثاً عني في باريس, يعد أن تركت الفندق دون إخبارهبذلك.
تحاشيت طبعاً إعطاءه تفاصيل عن إقامتي الجديدة. واقترحت عليه أن نلتقي فياليوم التالي.
لكنه فاجأني بذلك الخبر الذي ما توقعته أبداً حين قال ليمعتذراً:
انتهى الحب. وها أنا أرتعد عارياً كجذع شجرة جرداء.
لن أستطيع أنأراك غداً. سأكون مشغولاً بانتظار ناصر عبد المولى. سيحضر من ألمانيا للإقامة عنديبعض الوقت.. لكن إن شئت سنلتقي جميعاً بعد غد.
سألته غير مصدق:
أيناصر؟
ناصر.. ابن الشهيد الطاهر عبد المولى. أنت تدري أنه يقيم منذ سنتين فيألمانيا بعد أن اتهم بانتمائه لجماعة إسلامية مسلحة. حصل على حق اللجوء السياسيهناك. لكن ليس بإمكانه طبعاً العودة إلى الجزائر ولذا سيحضر إلى باريس للقاء والدتهالتي لم يرها منذ سنتين. التقيت به مطولاً في ألمانيا.. واتفقنا أن يبرمج مجيئه إلىباريس عند استئجاري شقة كي يتمكن من الإقامة عندي, فهو لأسباب أمنية يفضل عدمالإقامة في الفندق.
وهكذا كان مراد يزف لي خبرين: خبر مجيء ناصر, وحتمية مجيءأخته رفقة والدتها. فلم يكن من المعقول أن تأتي والدته بمفردها إلىباريس.
أذهلتني صاعقة المفاجأة.

أحقاً ستأتي تلك المرأة التي ماكان فيمفكرة حياتي موعد معها؟
ستأتي , بعدما لفرط انتظارها ما عدت أنتظرمجيئها.
سنتان من الانقطاع, تمددت فيهما جثة الوقت بيننا, وجوارها شيء شبيهبجثتي, فقد أحببتها لحظة دوار عشقي كمن يقفز في الفراغ دون أن يفتح مظلة الهبوط, ثم.. تركتها كما أحببتها, كما يلقي يائس بنفسه من جسر بدون النظر إلى أسفل. أما كنتابن قسنطينة حيث الجسور طريقة حياة وطريقة موت.. وحب!
تلك التي لم يتخل عنهايوماً رجل,تخليت عنها, خشية أن تتخلى هي عني. كأنني القائل ” رب هجر قد كان من خوفهجر\ وفراق قد كان خوف فراق“.
أكثر إيلاماً من التخلي نفسه, خوفي الدائم منتخليها عني.

عكس العشاق الذين يستميتون دفاعاً عن مواقعهم ومكاسبهمالعاطفية, عندما أغار أنسحب, وأترك لمن أحب فرصة اختياري من جديد.
كنت رجلالخسارات الاختيارية بامتياز. ما كان لي أن أتقبل فكرة أن تهجرني امرأة إلى رجلآخر.
أنا الذي لم أتقبل فكرة أن يكون أحد قد سبقني إليها. كيف لي أن أطمئن إلىامرأة تزرع داخلي مع كل كلمة حقولاً من الشك.
أذكر يوم سألتني لأول مرة إن كنتأحبها, أجبتها:
لا أدري.. ما أدريه أنني أخافك.
في الواقع كنت أخاف التيهالذي سيلي حبها, فمثلها لا يمكن لرجل أن يحب بعدها دون أن يقاصص نفسهبها.
يومها, فكرت أنني لا يمكن أن أواجه الخوف منها إلا بالإجهاز عليها هجراً. وكان ثمة احتمال آخر: اعتماد طريقتها في القتل الرحيم داخل كتاب جميل. فقد حدث أنأهدتني ما يغري بالكتابة. أشياء انتقتها بحرص أم على اختيار اللوازم المدرسيةلطفلها يوم دخوله الأول إلى المدرسة.
وكنت بعد موت عبد الحق بأسبوعين, صادفتهافي مكتبة في قسنطينة تشتري ظروفاً وطوابع بريدية لتبعث رسالة إلى ناصر في ألمانيا. كانت تمسك بيدها دفتراً أسود, قالت مازحة إنها اشترته لأنه تحرش بها. سألتنيفجأة:
إن أهدينك إياه, هل ستكتب شيئاً جميلاً؟
قلت:
لا أظنني سأفعل.. ستحتاجين إليه أكثر مني.
لم تعر جوابي اهتماماً, توجهت إلى البائع تطلب منه عدةأقلام سيالة من نوع معين. قالت وهي تمدني بها ” أريد منك كتاباً” كما لو قالتأريد منك طفلاً”. فهل كانت تريد أن تستبقيني بكتاب, كما تستبقي امرأة زوجاً بطفل؟أم كانت تهيئني للفراق الطويل؟
سألتها متوجساً مراوغة ما:
ما مناسبة هذهالهدية؟
ردت مازحة:
بإمكاننا متى شئنا أن نخترع مناسبة . سأفترض أنه عيدميلادك.. إني ألدك متى شئت من المرات.
كانت الأمومة خدعتها الجميلة, كخدعة أبوتيلها.
أمدتني بالدفتر وقالت:

– Bon anniverssaire!

لم يكن بإمكانها أن تقول هذه الأمنيةإلا بالفرنسية أو بالفصحى.. فليس في اللهجة الجزائرية صيغة ولا تعبير بإمكانك أنتتمنى به لأحد عيد ميلاد سعيداً. بينما تفيض هذه اللهجة بمفردات التعازيوالمواساة.!
ضحكت للفكرة. وجدتها تصلح بداية لكتاب يشرع جزائري في كتابته يومعيد ميلاده. لكنني لك أكتب شيئاً على ذلك الدفتر الذي أهدتني إياه, والذي نسيت أمرهعندما ذهبت للإقامة في ” مازافران”. ولم أعثر عليه إلا منذ مدة قريبة, والأصح أننيأنا الذي بحثت عنه.
لتكتب, لا يكفي أن يهديك أحد دفتراً وأقلاماً, بل لا بد أنيؤذيك أحد إلى حد الكتابة. وماكنت لأستطيع كتابة هذا الكتاب, لولا أنها زودتنيبالحقد اللازم للكتابة. فنحن لا نكتب كتاباً من أجل أحد , بل ضده.

دفترهاأمامي. وساعة يده في معصمي. وكل هذا الوقت المكفن ببياض الورق في متناولي. وأناأكتب عنها كما كنت أمارس الحب سراً معها, بالشراسة نفسها. في الحلم, كان يأتياشتهائي إياها عنيفاً لأنني أرفضها في اليقظة, وعندما كان ينتهي ذلك الفسق الحلمي, كنت أصرخ باسمها, ويجهش جسدي سراً بالبكاء, ثم أحزن وأكره يدي لساعات, أكره كلأعضائي التي تأتمر بأمرها.
باليد إياها أكتب. بالعنف نفسه أستحضرها على الورق, ذلك أنه يلزمني الكثير من الفحولة لمواجهة عري البياض. ومن لم ينجح في مقاربة أنثى, لن يعرف كيف يقارب ورقة. فنحن نكتب كما نمارس الحب. البعض يأخذ الكتابة عنوة كيفمااتفق. والآخر يعتقد أنها لا تمنحك نفسها إلا بالمراودة, كالناقة التي لا تدر لبناًإلا بعد إبساس, فيقضي أعواماً في ملاطفتها من أجل إنجاز كتاب.
لكن كيف لك أنتلاطف ورقة, وتجامل قارئاً, عندما تكتب على إيقاع الموت لشخص ما عاد موجوداً, مصراًعلى إخباره بما حدث.
ما نفع العلم الذي يزيد الأموات حزناً!؟

كانتحياتي مع فرانسواز قد بدأت هادئة وجميلة, ولكن بدون لهفة ولا شغف, يؤثثها ذلك الصمتالذي يلي ضجة الجسد, تلك الخيبة الصامتة, الندم المدفون تحت الكلمات.
كل صباح, كان الندم الجميل يأخذ حماماً, يدخن سيجارة, يضع قبلة على الشفتين الشاحبتين. الندمالذي كان يدري أن الوحدة أفضل من سرير السوء, كان يلهو باختبار سرير جديد, كماليكذب ندمه. فمن عادة النوم أن يثرثر كثيراً قبل الحب وبعده, كي يقنع نفسه أنه ليسنادماً على ما ليس حباً!

استيقظن في اليوم التالي, فلم أجد فرانسواز. ربماتكون نهضت باكراً إلى المعهد.
قررت أن أتناول قهوتي الصباحية مع فينوس, الأنثىالوحيدة الموجودة بالبيت. كانت في وقفتها تلك في ركن من الصالون بحجم امرأة حقيقية, تبدو كأنثى تستيقظ من نعاسها الجميل على أهبة التبرعم الأنثوي الأخير, تنتظر لهفةيديك, أو أوامر من عينيك, لتسقط ملاءتها أرضاً وتصبح امرأة.
كانت مثل أشياء ذلكالبيت, تخفي نصف الحقيقة, ملفوفة بانسياب يغريك بالبحث عما تحت ثوبهاالحجري.
أنت لن تعرف شيئاً عنها, سوى أنه هو الذي اقتناها لأنها أنثاه. والمرأةالتي بإمكانه أن يعيش معها بدون عقد,إنها أكثر منه عطباً. ولكن ذلك لن يمنعها من أنتكون الأنثى الأشهر والأشهى.
وأفهم أن يكون رودان قال إن لها القدرة على إلهابالحواس لأنها تمثل بهجة الحياة. هي دائمة الابتسام, تستيقظ بمزاج رائق كل صباح. لأنها, وهي إلهة الحب والجمال, لم تتلوث برجل. إنها أنثى بشهوات مترفعة!
حتماًهي أسعد من نساء يقضين عمرهن كشجرة المطاط التي تزين الصالون, في انتظار أن يتكرمعليها صاحب البيت بالسقاية… مرة كل أسبوع!

لاأدري كم من الوقت قضيت فيالتباس جسدي معها. أجيل نظري في جغرافية رغباتها؟ أتأمل جمالية أنوثة تحيط كل شيءفيها بلغز.
في حياة المصور كثير من الوقت الصامت, من الساعات المهملة, ومن تلكالحياة البيضاء التي تسبق الصورة.
ذلك الضجر المتيقظ, يخلق عنده وقتاً للحلم, ولذا بإمكانه أن يقضي ساعة في تأمل شجرة.. أو حركة الريح العابثة بستائر نافذة. أوانعكاس ضوء منار بحري على البحر, كذاك الذي كنت أقضي ساعات في تأمله.. في ليلمازافران“.
لكن وحدها فينوس تعطيك الإحساس أن الجمال كما الحب والبهجة, كانزلاقثوبها الحجري, أشياء قد تكون عند قدميك, إن توقفت عن الركض قليلاً, وتأملتالحياة.
ولذا, كان ذلك الوقت الصباحي الذي قضيته معها, أجمل من وقت ليلي قضيتهمع غيرها.
لم أحاول استنطاقها بعد ذلك. ككل الأشياء الشامتة صمتاً في ذلك البيت. هي لن تقول أكثر. ماجدوى أن أنتزع منها اعترافات مخادعة؟
حيث أنا قريب منها غريبعليها, لن أرى شيئاً. وحده شكي يرى.

في خلوتي الأولى بالأشياء فقدت القدرةعلى رؤيتها. فقدت حتى تلقائية فهم أنني أثناء استنطاقها أصبحت بعض ذاكرتها. لقدشيأتني, وإذ بي الشيء العابر بها .. كغيري. وهي الكائن المقيم الثابت الشاهدعلي.
بعد ساعة من الذهول الشارد أمامها تركت فينوس وخرجت إلى الشرفة أكتشفالمنظر وألقي تحية الصباح على ” جسر ميرابو“.
استناداً إلى رواية تلك الكاتبةالتي لا تصدق إلا في الروايات, بإمكاني أن أكون واثقاً على الأقل من أنهما وقفا هناذات مطر..
كما اليوم, وأنه قبّلها طويلاً هنا على مرأى من الجسر, بعد أن قرأعليها شيئاً من قصيدة السياب.
أما زال الجسر يذكر قبلة جزائريين ائتمناه علىحبهما؟ وتحت قدميه الأبديتين يجري نهر لم يؤتمن على أرواح الجزائريين ذات أكتوبر 1961 عندما طفت عشرات الجثث التي ألقيت إليه مكبلة؟

لو أن للسين ذاكرة لغيرالحزن مجراه.
اثنا عشر ألف معتقل فاضت بهم الملاعب والسجون, وستمئة مفقود وغريقتوقف قدرهم فوق الجسور الكثيرة التي لم تول النظر لجثثهم الطافية وهي تعبرتحتها.
أفهم عجز خالد في تلك الرواية على إقامة علاقة ود مع هذا المنظرالجميل.
لست عاتباً على نهر ” السين” ولا أنا على خلاف معه. فذاكرة المياهالمحملة عبر العصور بجثث من كل الأجناس, لا تستطيع أن تفرق بين الهويات, ولا يمكنهاالتمييز بين جثث الفرنسيين الذي ألقوا سنة 1789 إلى هذا النهر باسم الثورة.. وجثثالجزائريين الذين ألقوا إليه على مسافة قرنين بتهمتها.
جميعها دفعتها في اتجاهالمصب.
أنا أثق في براءة الأنهار, ولا أشك سوى في النوايا الطيبة للجسور. شكي فيالشعارات الكبيرة للثورات. فعندما أعطت الثورة الفرنسية اسم أحد خطبائها لجسر, كانفي الأمر خدعة ما.
ميرابو الذي وقف في البرلمان الفرنسي ليقول جملته الشهيرةنحن هنا بإرادة الشعب ولن نغادر إلا على أسنة الرماح”. أكان يدري أنه بعد قرنينسيكون شاهداً على حرب ضد إرادة شعب آخر؟
أغلقت النافذة, غير دار أين أمضي بقاطرةعمري المزدحمة بأحزان الآخرين. حيث أحل تطل شرفتي على فاجعة. وإذ بي حتى هنا فيباريس, كمن لفرط جوعه لا يعرف الجلوس إلى مائدة الحياة العامرة. أصنع تعاستي منذاكرة الفقدان حيناً,. وحيناً من ذاكرة الحرمان.
أخذت حماماً, ونزلت أكتشف الحيالذي أقام فيه خالد لسنوات. ذلك أنني مذ دخلت بيته استعاد زيان اسمه الأول, كأبطالبول إستر الذين يلتقطون دائماً شيئاً من الطرقات, كنت أتسقط أخباره, أتعقب آثاره. أجمع غباره في الشوارع, متقصياً, سائلاً كل مكان قد يكون عنى له شيئاً, مستعيناًبتلك الرواية, كما لو كانت دليلاً سياحياً لمعالم سبقني إلى زيارتها.
كنت أختبرالافتتان ببطل رواية, وأسطو على سحره متماهياً معه حيث أمر.
أكنت أتعقب آثاررجل.. أم أتشمم رائحة حب؟

كانت المسافات تبدو واهية بيني وبينه. أحياناً كنتأعيش المواقف, كما لو كنت هو. مقتفياً أثره في الأسرة والشوارع والمعارض والمقاهي. كنت أضاجع نساءه في سرير كان سريره. أعطي مواعيد في المقهى الذي كان يرتاده. أتأملجسر ميرابو من شرفة بيته, أحتسي قهوة أعددتها في مطبخه, أجالس أنثاه الرخاميةالمفضلة, وفي المساء أخلد إلى النوم على سرير ترك عليه بعض رائحته.. وكثيراً منأرقي. أفكر طويلاً في تلك المرأة نفسها التي منعته منذ سنوات من النوم. أليس الأمرغريباً حقاً؟
لأسباب أجهلها, ما زلت على لهفة الانتظار ويأس اللقاء.
تلكالمرأة التي بذريعة تعقب غيرها ما كنت أقتفي أثر سواها, سأضع اليوم يدي على مكمنسرها. فقد أهدتني مصادفات الحياة الموجعة موعداً مع رجل ينام في سرير بمستشفى(Ville juive )  ادعت أنه لا يوجد سوى في كتابها.
ذلك أن أبطال الروايات غالباً مايمرضون.. بسبب مؤلفيهم!

كنت أعي أن موعدي مع زيان, أياً كان نوعية العلاقةالتي ستتم بعده, والنتائج التي ستنجم عنه, هو حدث في حياتي. وعلي أن أستعد له بذلكالقدر من الحيطة العاطفية, حتى لا أفسده بعد أن أخذ مني الأمر شهراً في مطاردةفرانسواز لإقناعها بضرورة أن أتعرف عليه.. ولو على سرير المرض.

 

 

الفصل الخامس

اشتريت باقة وردوقصدته.
تحاشيت اللون الأبيض. إنه لا يليق برسام كرس حياته لإلغاء هذا اللون. تفاديت أيضاً أناقة تجعلني أبدو أقل لياقة في حضرة مرضه, وتوقظ غيرة عاشق أدركهالحب في سن الشك.
ولم أنس أن أحضر له معي بعض مقالاتي. حتى يصدق ذريعتي لزيارته, خاصة أن توقيعها يحمل اسم خالد بن طوبال.
بدون أن تكون غرفته تحمل الرقم 8 , كانفيها شيء يذكرك بآخر ديوان لأمل دنقل, فكل غرف المرضى رقم في مملكة البياض.
كان نقاب الأطباء أبيض/ لون المعاطف أبيض/ تاج الحكيمات أبيض/ أردية الراهبات/ الملاءات/ لون الأسرة/ أربطة الشاش والقطن/ قرص المنوم/ أنبوبة المصل/ كوباللبن“.

كان في ضيافة البياض. لكن بابتسامة سمراء وطلة مضيئة كألوان قزح بعدظهيرة توقف فيها المطر.
نهض يسلم علي بحفاوة, واضعاً شيئاً من الألوانبيننا.
أهلاً خالد… تفضل.
لم أعرف بأي اسم ولا بأية صيغة أناديه كي أردسلامه. فاكتفيت باحتضانه مردداً:
أهلاً.. حمد الله ع سلامتك.
متسائلاً ماذاتكون فرانسواز قالت له ليستقبلني بهذه الحرارة.
جلس قبالتي. ها هو إذن.
كانيرتدي هم العمر بأناقة.
كان وسيماً, تلك الوسامة القسنطينية المهربة منذ قرون فيجينات الأندلسيين, بحاجبين سميكين بعض الشيء, وشعر على رماديته ما زال يطغى عليهالسواد, وابتسامة أدركت بعدها أن نصفها تهكم صامت, ترك آثاره على غمازة كأخدودنحتها الزمن على الجانب الأيمن من فمه.
وكانت له عينان طاعنتان في الإغراء, ونظرة منهكة, لرجل أحبته النساء, لفرط ازدرائه للحياة.
كم عمره؟ لا يهم. مسرع بهالخريف, وينتظره صقيع الشتاء. إنه منتصف اليأس الجميل. منتصف الموت الأول, وهو لهذايبتسم. يبدو في أوج جاذبيته, جاذبية من يعرف الكثير لأنه خسر الكثير. وهذا سأفهمهلاحقاً.

على الكرسي المقابل لسريره العالي صغرت, وتعلمت الجلوس خلف المنضدةالمنخفضة للسؤال.
كيف تطرق ذاكرة ذلك الرجل طرقاً خفيفاً؟ كيف تأخذ منه أجوبة عنأسئلة لن تطرحها, ولكنك جئت بذريعتها؟
كيف تفتح نافذة الكلام في غرفة مريض, بدونأن تبدو غبياً, أو أنانياً, أو انتهازياً تسابق الموت على سرقة أسراره.
قلت كمنيعتذر:
تمنيت هذا الموعد كثيراً. آسف أن يتم لقاؤنا في المستشفى. إن شاء اللهصحتك في تحسن.
رد مازحاً:
لا تهتم..بي صبر مستعصٍ على الشفاء.
قلت:
بدءاً.. أنا أحب أعمالك الفنية ولي تواطؤ مع كثير من لوحاتك, ثم عندما فوجئت بوجودكفي باريس طلبت من فرانسواز أن تجمعني بك. فأنا بمناسبة مرور ذكرى ثورة نوفمبر أعدمجموعة حوارات مطولة مع شخصيات جزائرية ساهمت في حرب التحرير.. لي إحساس أنني سأنجزمعك حواراً جميلاً.
قال مبتسماً:
أعتقد ذلك أيضاً. فنحن حسب ما بلغني , لناالاهتمامات ذاتها, ونشترك في حب الكثير من الأشياء.
لم أكن أعرف عنه لحظتها مايكفي لأدرك أنه اكتسب منذ زمن حدس الحقيقة, وتدرب على فن التغابي الذكي, وأنالأشياء” هنا, ربما كان يعني بها .. النساء.
قلت وأنا أستأذنه فتح المسجل كيأعطي رسمية للقاء:
تعنيني ذاكرتك كثيراً.. فأنت خضت حرب التحرير وعايشت معاركوبطولات تلك الفترة.. ماذا بقي لك من ذكرى رجالات وأبطال تلك الحقبة؟
ردمازحاً:
أنت تلاحق ذاكرة مضللة. لا وجود إلا للبطولات الصغيرة. البطولاتالكبيرة أساطير نختلقها لا حقاً.
أكبر المعارك تخوضها ببسالة الضمير.. لا بسلاحكولا بعضلاتك, وتلك المعارك هي التي يستبسل فيها الناس البسطاء النكرة الذين يصنعونأسطورة النصر الكبير, والذين لن يأتي على ذكرهم أحد.. ولن يسألهم صحافي على سريرالمرض عن ماضيهم.

فاجأني المنطلق العكسي الذي بدأ به حوارنا. حاولت مسايرةوجهته:
لكنك توافق من يقول إن الثورات يخطط لها الدهاة, وينفذها الأبطال ويجنيثمارها الجبناء؟
ابتسم وأصلح من جلسته وكأن الحوار أصبح فجأة يعنيه, ثم رد بعدشيء من الصمت:
إن كان لي أن أختصر تجربتي في هذه الثورة التي عايشت جميعمراحلها, فبتصحيح هذه المقولة القابلة للمراجعة في كل عمر. اليوم بالنسبة لي, الثورة تخطط له الأقدار وينفذها الأغبياء ويجني ثمارها السراق. دائماً, عبرالتاريخ, حدثت الأشياء هكذا. لا عدالة في ثورات تتسلى الأقدار بقسمة أنصبتها, فيالموت والغنيمة, بين مجاهدي الساعة الأخيرة, وشهداء ربع الساعة الأخيرة. أتدريعبثية منظر الشهيد الأخير, في المعركة الأخيرة, عندما يتعانق الطرفان في حضرته؟ فوقجثة آخر شهيد تبرم أول صفقة.
بقيت ملازماً صمتي. كانت أسئلته أجوبة مغلقة لاإضافة لك عليها, لكنني كنت أبحث عن مدخل يوصلني إليه, عساني أعرف إن كان له ماضيطابق ماضي خالد في تلك الرواية. سلكت إليه طريقاً متعرجاً:
وأنت.. كيف عشتتلك البدايات.. أي ماض كان ماضيك؟
أجاب ساخراً, كمحارب عجوز بدأ يستخفبانتصاراته:
إجلالاً للأحلام القديمة غير المحققة, أحب التحدث عن الماضي بصيغةالجمع.. في ماضي المغفلين الذي كان عيباً فيه أن تقول ” أنا” نسيت أن أكون أنا. أمااليوم, فبجسارة اللصوص, من الطبيعي أن يتحدث أي زعيم عصابة عن نفسه بصيغةالجمع!
قال جملته الأخيرة وهو يضحك.
كان له جمالية الحزن الهادئ. الحزن الذيأكسبه بلاغة الصمت, وفصاحة التهكم, بحيث كان إن ضحك أدركت أنه يدعوك إلى مشاركتهالبكاء.
قلت لأعيده إلى الحديث عن نفسه:
لكن اسمك كأحد كبار رسامي الجزائريعطيك حق أن تكون فرداً ومتفرداً.
أجاب بنبرة ساخرة:
ذاك الحق لا تكتسبهبموهبتك وإنما بحكم الشيخوخة والمرض.. عندما تبلغ هذا السرير الأخير, تعود كما كنتبدءاً: وحيداً وأعزل. تصبح من جديد “أنا” لأن الجميع انفضوا من حولك.
عليك أنتتدرب على الكلام بالمفرد, والتفكير بالمفرد, أنت الذي قضيت عمراً تتحدث بصيغةالجمع, لا لأهميتك ولا لأهمية كرسي تجلس عليه, ولكن , لأن ” الأنا” لم تكن موجودةعلى أيام جيلك. كان جيل الأحلام الجماعية, والموت من أجل هدف واحد.
لم تكنتنقصنا أحياناً الأنانية, ولا الوصولية, ولا الخيانة, ولا حتى جريمة قتل الرفاق. كانت تنقصنا السخرية. وكانت تلك فجيعة حياة نضالية محكوم عليها بالانضباط والجدية, مما جعل الذكاء والحلم على أيامنا ضرباً من التمرد. منذ زمن وأنا أعاني من نقص فيكريات الضحك.. ولذا أوصلني القهر إلى هنا!
لم أعرف كيف أواصل الحديث إليه. قلتمعلقاً:
إنها الحياة.. كل يواجهها بما استطاع.
قال:
تقصد.. كل يتخلىعن قناعاته حيث استطاع. تركب القطار البخاري للرفض, وترى رفاقك خلسة يترجلون الواحدبعد الآخر, وتدري أنك مسافر فيه عمراً واقفاً , وأنك آخر من ينزل. ولكن ماذابإمكانك أن تفعل إن كنت لم تولد على أيام القطارات السريعة!
كان الحوار يمضي بناإلى حيث يوصلنا كلامه, فسألته:
والغربة.. أية محطة تمثل فيرحلتك؟
قال:
الغربة ليست محطة.. إنها قاطرة أركبها حتى الوصول الأخير, قصاصالغربة, يكمن في كونها تنقص منك ما جئت تأخذ منها. بلد كلما احتضنك, ازداد الصقيعفي داخلك. لأنها في كل ما تعطيك تعيدك إلى حرمانك الأول. ولذا تذهب نحو الغربةلتكتشف شيئاً… فتنكشف باغترابك.
وبماذا انكشفت؟
انكشفت بعاهتي. لا بهذهالتي تراها, بل بما يوجد في أطرافها ولا تراه.
صمت فجأة عن الحديث, كما لو أنهاستطرد صمتاً, ليواصل الحديث إلى نفسه عن أشياء لا تريد البوح بها.
لم أقاطعصمته بكلمة. رأيته يتأمل ذراعي اليسرى, كأنه استشعر عاهتي غير الظاهرة. أكان يملكحدس المعوقين.. أم كان يعرف بعاهتي؟
أردف مواصلاً كلامه:
أنت لن تفهم هذا. هذا أمر لا يفهمه إلا من فقد أحد أطرافه. وحده يعاني من “ظاهرة الأطراف الخفيةإحساس ينتابه بأن العضو المبتور ما زال موجوداً. بل هو يمتد في بعض الأوقات إلىكامل الجسد. إنه يؤلمه.. ويشعر بحاجة إلى حكه.. أو تقليم أظافر يد لا توجد!
كذلكالأشياء التي فقدناها. والأوطان التي غادرناها والأشخاص الذين اقتلعوا منا. غيابهملا يعني اختفاءهم. إنهم يتحركون في أعصاب نهايات أطرافنا المبتورة. يعيشون فينا, كما يعيش وطن.. كما تعيش امرأة.. كما يعيش صديق رحل.. ولا أحد غيرنا يراهم. وفيالغربة يسكنوننا ولا يساكنوننا, فيزداد صقيع أطرافنا, وننفضح بهم برداً!
سرت فيجسدي قشعريرة كلمات قالها بهدوء كمن يتسلى بإطلاق النار على نفسه.. فيصيبك.
كانيختصر لي حياته من خلال السيرة الذاتية ليد أصبحت ليتمها ” ذاكرة جسد”. إنه يتمالأعضاء. كيف أعتقد أنني لا أفهم هذا؟
شعرت برغبة في البكاء. أو في تقبيل ذلكالطرف المعطوب من ذراعه. هناك حيث تبدأ خساراتنا المشتركة.
يا إلهي.. إنهخالد!

وقعت في حب ذلك الرجل, في حب لغته, في حب استعلائه على الألم وانتقائهمعزوفة وجعه, في حب وسامة تبتكر جمالها كل لحظة بدون جهد, لأنها تشع من داخله. وأدركت أن تكون حياة قد أحبته إلى ذلك الحد. لقد خلق ليكون كائناً روائياً.
كاندائم التنبه إلى جرس الكلمات, وإلى ما يضيفه الصمت لجملة. تطرح عليه سؤالاً, فيأخذهمنك ويصوغه في سؤال آخر, يبدأ غالباً بقوله:
تقصد..
وفي صيغته التساؤليةتلك يكمن جوابه. هو يصححك, لكن بقلم الرصاص دائماً, بصوت أقل نبرة من صوتك, لا قلمأحمر في حوزته. هو ليس معلماً, هو فقط رجل يسخر كبورخيس, يملك تلك “الحقيقةالهزلية” التي تجعل من مجالسته متعة لم تعرفها من قبل.
قال وهو يتصفحمقالاتي:
تدري؟ أحسد كل من يكتب. ” الكتابة هي التجذيف بيد واحدة” وبرغم هذاهي ليست في متناولي. لقد فقدت الرغبة في الإبحار, ربما لأنك كي تبحر لا بد أن يكونلك مرفأ تبحر نحوه, ولا وجهة لي. حتى الرسم توقفت عن ممارسته منذ سنتين.
أمدنياعترافه هذا بموجز عن نشرته العاطفية, ذلك أنني تذكرت قول بيكاسو ” أن تعود إلىالرسم أي أن تعود إلى الحب” فقد ارتبطت كل مرحلة فنية عنده, بدخول امرأة جديدة فيحياته. وربما كانت كل مرحلة فنية عنده, بدخول امرأة جديدة في حياته. وربما كانتالكتابة عكس ذلك, فقد كانت حياة كلما سألتها خلال السنتين اللتين قضيناهما معاًلماذا لا تكتب؟ أجابت ” الكتابة إعمال قطيعة مع الحب وعلاج كيماوي للشفاء منه.. سأكتب عندما نفترق“.

 

 

قلت:
مؤسف حقاً.. ألا تكون قد رسمت كل هذهالفترة.
أجاب:
الرسم كما الكتابة, وسيلة الضعفاء أمام الحياة لدفع الأذىالمقبل. وأنا ما عدت أحتاجها لأنني استقويت بخساراتي. الأقوى هو الذي لا يملك شيئاليخسره. لا تنغش بهيئتي. أنا رجل سعيد. لم يحدث أن كنت على هذا القدر من الخفةوالاستخفاف بما كان مهماً قبل اليوم.
عليك في مساء الحياة أن تخلع هم العمر كماتخلع بدلة نهارك أو تخلع ذراعك أو أعضاءك الإصطناعية, أن تعلق خوفك على المشجب, وأنتقلع عن الأحلام. كل الذين أحببتهم ماتوا بقصاص أحلامهم!
أدركت فجأة سر جاذبيته. كانت تكمن في كونه أصبح حراً. عندما ما عاد لديه ما يخسره أو يخاف عليه.
وهويدرك جماله كلما فاجأ نفسه يتصرف محتكماً لمزاجه, لا لحكم الآخرين, كما عاش من قبل. ولا تستطيع إلا أن تحسده, لأنه خفيف ومفلس. خفته اكتسبها مما أثق به الناس أنفسهممن نفاق. وبإمكانه أن يقول لكل من يصادفه من معارف ما لم يجرؤ على قوله منقبل.
كرأيه في الرسام غير الموهوب الذي كان ينافقه مادحاً أعماله, والجار الذيكان يجامله اللحية عن خوف, والصديق الذي كان يسكت عن اختلاساته عن حياء, والعدوالمنافق الذي كان يدعي أمامه الغباء.
سألته:
ألا تخشى ألا يبقى لك صديق بعدهذا؟
ضحك:
ما كان لي صديق لأخسره. أصدقائي سقطوا من القطار. عندما تغادروطنك, تولي ظهرك لشجرة كانت صديقة, ولصديق كان عدواً. النجاح كما الفشل, اختبار جيدلمن حولك, للذي سيتقرب منك ليسرق ضوءك, والذي سيعاديك لأن ضوءك كشف عيوبه, والذيحين فشل في أن ينجح, نذر حياته لإثبات عدم شرعية نجاحك.
الناس تحسدك دائماً علىشيء لا يستحق الحسد, لأن متاعهم هو سقط متاعك. حتى على الغربة يحسدونك, كأنماالتشرد مكسب وعليك أن تدفع ضريبته نقداً وحقداً, وأنا رجل يحب أن يدفع ليخسرصديقاً. يعنيني كثيراً أن أختبر الناس وأعرف كم أساوي في بورصة نخاستهم العاطفية. البعض تبدو لك صداقته ثمينة وهو جاهز ليتخلى عنك مقابل 500 فرنك يكسبها من مقاليشتمك فيه, وآخر يستدين منك مبلغاً لا يحتاجه وإنما يغتبط لحرمانك منه, وآخر أصبحعدوك لفرط ما أحسنت إليه ” ثمة خدمات كبيرة إلى الحد الذي لا يمكن الرد عليها بغيرنكران الجميل”. ولذا لا بد أن تعذر من تنكر لك, ماذا تستطيع ضد النفس البشرية؟
وكيف تعيش بدون أصدقاء؟
لا حاجة لي إليهم.. أصبح همي العثور على أعداء كبارأكبر بهم. تلك الضفادع الصغيرة التي تنقنق تحت نافذتك وتستدرجك إلى منازلتها فيمستنقع, أصغر من أن تكون صالحة للعداوة. لكنها تشوش عليك وتمنعك من العمل.. وتعكرعليك حياتك. إنه زمن حقير, حتى قامات الأعداء تقزمت, وهذا في حد ذاته مأساة بالنسبةلرجل مثلي حارب لثلاث سنوات جيوش فرنسا في الجبال.. كيف تريدني أن أنازل اليوم ضآلةيترفع سيفك عن منازلتها؟
أنت إذن تعيش وحيداً؟
رد مبتسماً:
أبداً.. أنا موجود دائماً لكل من يحتاجني, إني صديق الجميع ولكن لا صديق لي. آخر صديق فقدتهكان شاعراً فلسطينياً توفي منذ سنوات في بيروت أثناء الاجتياح الإسرائيلي. لم أجدأحداً بعده ليشغل تلك المساحة الجميلة التي كان يملأها داخلي. معه مات شيء مني. ماوجدت من يتطابق مع مزاجي ووجعي.
سكت قليلاً ثم أضاف:
تدري؟ هذه أول مرةأتحدث فيها هكذا لأحد. لكأنك تذكرني به. لقد كان في عمرك تقريباً ووسيم هكذا مثلك, وكان شاعراً غير معروف ولكنه مذهل في انتقائه الكلمات. عندما أغادر المستشفى, سأطلعك على بعض قصائده.. ما زالت في حوزتي.
قال فجأة كمن يعتذر:
قد أكونتحدثت كثيراً.. عادة أنا ضنين في الكلام, فالرسامون حسب أحدهم ” أبناءالصمت“.
قلت وأنا أمازحه:
لا تهتم.. فالمصورون أبناء الصبر..!
قال وقدأضاءت وجهه ابتسامة:
جميل هذا.. يا إلهي.. أنت تتكلم مثله!
كدت أقول لهطبعاً.. لأن رجال تلك المرأة جميعهم يتشابهون” لكنني لم أقل شيئاً. وقفت لأودعه. ضمني بحرارة إليه, وسألني:
متى ستنشر هذه المقابلة؟
أجبته بمحبة:
لمتنته بعد لتنشر.. لقاءاتنا ستتكرر إن شئت, فأنا أريد عملاً عميقاً يحيط بكلشخصيتك.
قال مازحاً:
لا تقل لي إنك ستعد كتاباً عني.. ما التقيت بكاتب إلاوأغريته بأن يلملم أشلاء ذاكرتي في كتاب!
استنتجت أنه يعنيها. قلت:
لا , أنا لست كاتباً. الكتابة تكفين الوقت بالورق الأبيض.. أنا مصور, مهنتي الاحتفاظبجثة الوقت, تثبيت اللحظة.. كما تثبت فراشة على لوحة.
قال وهو يرافقني نحوالباب:
في الحالتين.. أنت لا تكفن سوى نفسك بذا أو ذاك.
ثم واصل كمن تذكرشيئاً:
لا تنس أن تأتيني في المرة المقبلة بالصورة التي حصلت بها على جائزة. لقد أخبرتني فرانسواز أنك مصور كبير.
كأنني بدأت أشبهه, لم أعلق على صفة “كبيرسوى بابتسامة نصفها تهكم.
تركته للبياض. وغادرت المستشفى مليئاً بذلك الكمالمذهل من الألوان.

عندما عادت فرانسواز إلى البيت, وجدتني أعيد الاستماعإلى تسجيل حوارنا.
سألتني إن كنت أفرغ الشريط قصد كتابة المقال. أجبتها أننيأفرغه لأمتلأ به. فلم يكن في الواقع في نيتي أن أكتب أي مقال. ولا توقعت يومها أنني , كمن سبقني إلى ذلك الرجل, سأرتق أسمال ثوب ذاكرته في كتاب!

***

دفع واحدة, قررت الحياة أن تغدق عليك بتلك المصادفات المفجعة في سخائها, حد إرعابك من سعادة لم تحسب لها حساباً. لم أكن أصدق لقائي بزيان حتى كنت في اليوم التالي أتعرف على ناصر.
أكان في الأمر وما سيليه من مصادفات أخرى.. مصادفة حقاً؟
” المصادفة هي الإمضاء الذي يوقع به الله مشيئته”. ومشيئته هي ما نسميه قدراً.
وكان في تقاطع أقدارنا في تلك النقطة من العالم أمر مذهل في تزامنه. لن أعرف يوماً إن كان هبة من الحياة أو مقلباً من مقالبها.
كل ما أدريه أنني مذ غادرت الجزائر ما عدت ذلك الصحافي ولا المصور الذي كنته. أصبحت بطلاً في رواية, أو في فيلم سينمائي يعيش على أهبة مباغتة؟ جاهزاً لأمر ما.. لفرح طارئ أو لفاجعة مرتقبة.

نحن من بعثرتهم قسنطينة, ها نحن نتواعد في عواصم الحزن وضواحي الخوف الباريسي.
حتى من قبل أن نلتقي حزنت من أجل ناصر, من أجل اسم أكبر من أن يقيم ضيفاً في ضواحي التاريخ, لأن أباه لم يورثه شيئاً عدا اسمه, ولأن البعض صنع من الوطن ملكاً عقارياً لأولاده, وأدار البلاد كما يدير مزرعة عائلية تربي في خرائبها القتلة, بينما يتشرد شرفاء الوطن في المنافي.
جميل ناصر. كما تصورته كان. وجميلاً كان لقائي به, وضمة منه احتضنت فيها التاريخ والحب معاً, فقد كان نصفه سي الطاهر ونصفه حياة.
بدا مراد أسعدنا. كان يحب لم شمل الأصدقاء. وكان دائم البحث عن مناسبة يحتفي فيها بالحياة.
كانت شقته على بساطتها مؤثثة بدفء من استعاض بالأثاث الجميل عن خسارة ما, ومن استعان بالموسيقى القسنطينية ليغطي على نواح داخلي لا يتوقف.
سألته متعجباً:
– متى استطعت أن تفعل كل هذا؟
رد مازحاً:
– أثناء انشغالك بالمعارض التشكيلية!
فهمت ما يقصد.
– والأغاني القسنطينية, من أين أحضرتها؟
– اشتريتها من هنا. تجد في الأسواق كل الأغاني من الشيخ ريمون وسيمون تمار حتى الفرقاني. يهود قسنطينة ينتجون في فرنسا معظم هذه الأشرطة.
رحت أسأل ناصر عن أخباره وعن سفره من ألمانيا إلى باريس إن كان وجد فيه مشقة.
رد مازحاً:
– كانت الأسئلة أطول من المسافة! ثم أضاف: أقصد الإهانات المهذبة التي تقدم إليك من المطارات على شكل أسئلة.
قال مراد مازحاً:
– واش تدير يا خويا.. ” وجه الخروف معروف!”
رد ناصر:
– معروف بماذا؟بأنه الذئب؟
أجاب مراد:
– إن لم تكن الذئب, فالذئاب كثيرة هذه الأيام. ولا أدري سبباً لغضبك. هنا على الأقل لا خوف عليك ما دمت بريئاً. ولا تشكل خطراً على الآخرين. أما عندنا فحتى البريء لا يضمن سلامته!
رد ناصر متذمراً:
– نحن نفاضل بين موت وآخر, وذا وآخر, لا غير. في الجزائر يبحثون عنك لتصفيتك جسدياً. عذابك يدوم زمن اختراق رصاصة. في أوربا بذريعة إنقاذك من القتلة يقتلونك عرياً كل لحظة, ويطيل من عذابك أن العري لا يقتل بل يجردك من حميميتك ويغتالك مهانة. تشعر أنك تمشي بين الناس وتقيم بينهم لكنك لن تكون منهم, أنت عار ومكشوف بين الناس بسبب اسمك, وسحنتك ودينك. لا خصوصية لك برغم أنك في بلد حر. أنت تحب وتعمل وتسافر وتنفق بشهادة الكاميرات وأجهزة التنصت وملفات الاستخبارات.
قال مراد:
– وهذا يحدث لك أيضاً في بلادك.
وكما لينهي الجدل وقف ليسألنا:
– واش تحبوا تاكلوا يا جماعة؟
سعدت بالسؤال. لا لجوعي, وإنما رغبة في تغيير نقاش لا يصلح بداية لجلسة.
ضحكت في أعماقي لما ينتظر ناصر المسكين من مجادلات ومشاكسات يومية مع مراد الذي أقصى تضحية قد يقوم بها إكراماً لضيفه: امتناعه عن تناول الكحول في حضرته. وقبل أن نجيبه قصد مراد المطبخ وعاد بصحن من الصومون وآخر من الأجبان والمخللات. قال وهو يضعها على الطاولة:
– هزوا قلبكم.. قبل العشاء.

أضف تعليق